1 "كتاب تحفة الترك فيما يجب أن يعمل الملك" ينشر للمرة الأولى. وقد اعتمد المحقق على نسخة محفوظة في المكتبة الوطنية في قسم المخطوطات الشرقية المجموعة العربية رقم 2445 التي ارتأى دوسلان أنها تعود الى القرن السادس عشر ميلادي. على أنها قد تكون قد نسخت قبل ذلك. ومع أنه توجد نسخة ثانية رقم 2446 في المجموعة ذاتها إلا انها كثيرة الفجوات والأخطاء ص 53. ولم يكتفِ محمد المِنَصْري بتحقيق المخطوطة ونشرها وترجمتها الى اللغة الفرنسية بل وضع لها دراسة مستفيضة ص 15 - 131 تناول فيها استقرار المذاهب السنية الأربعة في دمشق وحياة المؤلف ومصادر معلوماته وحلّل القضايا التي تناولها المؤلف في كتابه مقارناً بين آرائه وآراء بعض معاصريه أو سابقيه، ثم قيّم الكتاب بالنسبة الى كتب أخرى مماثلة. وهي دراسة ثريّة تمكننا من فهم كتاب "تحفة الترك" فهماً دقيقاً. ومع أن القصد الأساسي من هذا المقال التحدث عن الكتاب نفسه، فإننا نرى أن نضع بين يدي القارىء بعض ما توصل اليه محمد مِنَصْري في هذه الدراسة، إذ أنها تثري المعرفة والمراجعة. 2 ولنبدأ حيث بدأ المحقق فننقل عنه خلاصة قصيرة لقيام المذاهب الأربعة السنية في دمشق. 1 - وصل المذهب الشافعي الى دمشق في وقت مبكر لكنه تركز في القرن الثالث/ التاسع. ومع أنه تأخر في أيام الفاطميين فقد عاد الى الواجهة مع نورالدين الذي قوى مركز أتباعه. وقد تولى منصب قاضي القضاة في دمشق في القرن السابع/ الثالث عشر ثلاثة من كبار علماء الشافعية وهم بهاء الدين زكي وكمال الدين التفليسي وتقي الدين بن رَزين" وكان من علماء المذهب الكبار محيي الدين النووي وعبدالرحمن الفزاري وتقي الدين السبكي وابنه تاج الدين ص 21 - 26. 2 - جاء المذهب الحنفي الى دمشق مع السلاجقة على أيدي علماء من المشرق - من خراسان وما وراء النهر - حيث كان قد انتشر هناك منذ القرن الثالث/ التاسع. وكانت الصادرية أول مدرسة حنفية أنشئت بدمشق وأول من تولى التدريس فيها القاشاني ثم البلخي ثم المكي الرازي والحصيري. وكان بنو الأبيض وبنو العديم علماء حلب من المذهب الحنفي ص 26 - 34. وكان كبير علماء الحنابلة في القرن الثامن/ الرابع عشر الإمام ابن تيمية. 3 - ان الذي يسّر للمذهب الحنبلي الوجود في دمشق هو أبو الفرج عبدالواحد. وكان من علمائه الحوراني ثم بنو المنجا وبنو قدامه ص 34 - 36. 4 - كان المذهب المالكي أقل انتشاراً من المذاهب السنية الأخرى. ويعود دخوله الى دمشق الى علماء جاءوا من المغرب واسبانيا، وقد كان هؤلاء قلة لأن أكثر القادمين في غرب العالم الإسلامي كانوا يفضلون القاهرة والإسكندرية على دمشق. وقد زودت أسرة الزواوي بعدد من علماء المالكية ص 36 - 39. وحري بالذكر أن قاضي القضاة بدمشق كان أصلاً شافعياً. لكن في سنة 664/ 1265 غيّر ركن الدين بيبرس الأمر وجعل لكل من المذاهب الأربعة في دمشق وسائر دولة المماليك قاضياً للقضاة. وكان أول قاضي قضاة حنبلي هو شمس الدين المقدسي، وأول مالكي يتولى المنصب هو زين الدين الزواوي. 3 مؤلف "كتاب تحفة الترك" هو نجم الدين بن عماد الدين الطرطوسي. ولد في المزة 721/ 1321، من ضواحي دمشق، وكان أبوه قد تولى التعليم في جامع القلعة بدمشق، ثم عيّن قاضياً، وفي سنة 727/ 1327 تولى منصب قاضي قضاة الحنفية. تلقى نجم الدين علومه على يدي أبيه وعدد من العلماء الأحناف. وفي سن الخامسة عشرة أعطى أول درس في المدرسة الإقبالية، وبعد سنتين درّس في المدرسة الشبليّة. وقد كان، مع صغر سنه، عشير أعاظم نيابة دمشق ومنهم تنكز الذي تولى النيابة سنة 712/1312 وظل في مركزه مدة تقرب من ربع القرن ص 41 - 42. لما توفي عماد الدين 746/ 1345 تولى ابنه نجم الدين التدريس في المدرسة النورية الكبرى، كما خلف أباه في منصب قاضي القضاة، وقد وصلته الخلعة مع توقيع شريف للمنصب سنة 751/ 1350 ص 44. يؤكد محمد مِنَصْري أن نجم الدين لم ينل الاهتمام الكافي من مؤرخي عصره ولاحقيه ويعزو ذلك إما الى الإهمال أو الى الجهل. لكن لعل شباب الرجل وموته المبكر 758/ 1357 لم يلفت اليه نظر المعاصرين واللاحقين. والذي استطاع المحقق الحصول عليه، فضلاً عن الذي ذكرناه، هو أنه كان بين مدرسيه، أو شيوخه كما كان يقال، أبو نصر الشيرازي والحجار ص 41 - 45. 4 يقول الطرسوسي في فاتحة كتابه: "... وبعد فإن الله تعالى جعل حفظ نظام الأنام بالسلطان، وأدام له الأيام بالعدل في الشريعة والإحسان. ورأيت من الواجب في هذا الزمان، بذل النصيحة له بقدر الإمكان، بتأليف كتاب يشمل على فصول تجتمع فيها أنواع مصالح الملك مما تعتمد عليه الملوك، وبيان طريق يدوم لهم بها الملك بحسن السلوك، ولم أقصد بذلك سوى القيام بهذا الواجب، وحفظ نظام الملك لمن هو في اتباع الشرع من الملوك راغب". ص 9 من النص. فهذا المدرس قاضي القضاة الشاب يضع كتاباً فيه نصح وتوضيح: النصح لتجنب القبيح والخطأ والتوضيح لاتباع الطريق الفقهي العملي. فالكتاب هو من النوع الذي يرشد الى صحة الأسلوب معتمداً في ذلك أصلاً على الآراء الفقهية. فهو وسط بين كتاب مثل صبح الأعشى للقلقشندي وكتاب مثل السياسة الشرعية لابن تيمية. فأول هذين وصفي تقني والثاني فقهي فلسفي الى درجة ما. لكن كتاب تحفة الترك فيه من الأول وباختصار كبير ومن الثاني دون ارهاق، بحيث تتضح القواعد وتصح الشواهد. إلا أنه يترتب علينا أن نشير الى أمر على غاية الأهمية: كان الطرسوسي حنفياً، وكان يرى أن الأمور الدقيقة المتعلقة بشؤون المسلمين يجب أن يرتب أمرها على يد حنفي. إلا أنه يخطو خطوة أبعد. فهو خصم للمذهب الشافعي. فلا غرابة أن نجد عنده مثل هذا القول "لا يعيّن شافعي ولاية ولا قضاء"، و"لا يولّى الشوافع لشيء من أعمال المسلمين" ص 14. في الفصل الأول يدعو الترك المماليك الى الأخذ بالمذهب الحنفي لأنه أنسب لهم. فالشافعي يشترط في صحة تولية السلطان أن يكون قرشياً ومجتهداً. ومعنى هذا أن سلاطين الترك لا شرعية لهم بالنسبة للمذهب الشافعي. أما أبو حنيفة وأصحابه "لا يشترط في صحة تولية السلطان أن يكون قرشياً ولا مجتهداً ولا عدلاً" ص 10 - 11. ويتبع ذلك أن المذهب الحنفي يجيز التقلد من الترك. ويقول بوضوح "ان مذهبنا أوفق للترك وأصلح لهم من مذهب الشافعي" ص 12 ويفصل بين المسائل التي تُرجّح كفة الترك شرعاً إذا أخذوا بالمذهب الحنفي ص 12 و13. يشدد الطرسوسي في فاتحة الفصل الثالث على العدل، فيقول "النوع الأول ]من القصص[ في إزالة المظالم وكف يد الظالم. وهذا النوع من أهم الأنواع وأولاها بالاعتناء، فإن العدل يقوم به الملك ويدوم" ص 14 وينتقل بعد ذلك فيقدم لصاحب السلطان ما يجب أن يتمتع به الموظفون المكلفون بإدارة شؤون الرعية من نائب السلطنة الى القضاة الى الوزراء الى الحجاب ص 14 - 27. ولعل من ألطف ما ذكره الطرسوسي عن القصة التي ترفع للسلطان في طلب منصب. ان الطرسوسي يأخذ كلاً من المناصب المطلوب التعيين فيها ويشير الى من يرجع السلطان في الاستشارة للتولية. ولعل أطرف هذه الوظائف هي المتعلقة بالإقطاع. فإذا كان الاقطاع غير منحل لا يلتفت السلطان الى طالب الاقطاع. أما إذا كان الاقطاع منحلاً "نظر السلطان في حال الطالب وسأله عن الجندية ومعرفة الرمي والفروسية وشد العدة ولبس الجوشن والزردية والسيف". فإذا قال جميع هذه الأشياء على وجهها طلب منه أن يقوم بأعمال الفروسية، أي أنه يختبره عملياً في عدة الحرب ولبسها وركب الحصان ثم أمره أن يبارز شخصاً من الفرسان المعروفين بالفروسية، فإن أظهر معرفة ذلك "أعطاه الخبز وخلع عليه، وان لم يجده يحسن فعل ذلك، لا يعطيه شيئاً" ص 15 - 16. ويفعل السلطان الأمر نفسه في كل من يتقدم لطلب منصب سواء في ذلك نيابة عن السلطنة أم القضاء. ويفصل أمر القاضي ويختم ذلك بقوله "وإنما أطلت الكلام في الفحص عن أهلية القاضي وقت الولاية وأنه يكون أدين أهل مذهبه وأعقلهم" ص 16 - 17. ويعود فيفصل كل ما يحتاج أن يطلب أو يعطى للقاضي من شروط بحسب المذهب الذي يتبعه ويقتصر على المذهبين الشافعي والحنفي حتى لا يتجاوز القاضي واجباته ولا يغتاث على حقوق الصغار وسواهم ممن يعهد اليه النظر في شؤونهم ص 17. وثمة أمور قضائية يصر الطرسوسي على أنها يجب أن يعهد فيها الى قاض حنفي: منها أمور الصدقات والإمامة وقضاء البر والأوقاف والأيتام ص 18، وقضاء العسكر وخطابة الجامع الأموي ص 23. ويرى المؤلف أنه من الضروري أن يكشف عن القضاة ونوابهم ص 25 - 26، ويحذر القاضي من قبول البرطيل، فالذي يبرطل على القضاء يستحق في رأي الطرسوسي التعزير بالمال والضرب ص 26. ويعتبر أنه من واجبات السلطان النظر في أمور الحصون والجسور والثغور والمساجد وكسوة الكعبة وإصلاح طريق الحاج وترتيب سير الحاج واقامته. كما أنه يعين ثمن الكسوة وما يصرف عليه من مال الخراج والجزية وما يهديه أهل الحرب الى السلطان ص 31. ويحدد الطرسوسي موقف السلطان من الهدايا التي قد تأتي السلطان من ملوك الفرنج أو قد تأتي من العدو الى أمير الجند فهذه الهدايا تذهب الى بيت المال ص 33. وثمة فصل الفصل الحادي عشر ص 34 - 41 يتناول فيه المؤلف أحكام البغاة والخوارج على السلطان. والبغاة قوم من المؤمنين خرجوا على السلطان. لكن الطرسوسي يقبل رأي الاسبيجامي الذي يفرق بين البغاة وهم الخارجون على النظام وبين الخارجين على السلطان لظلم لحقهم منه. فهؤلاء ليسوا بغاة ص 36، ويتناول الأحكام المتعلقة بالبغاة: هل يجوز أن يبدأهم السلطان بالقتال أم لا؟ ومذهب المؤلف الحنفي هو أنه يحل للإمام العدل أن يقاتلهم ولو لم يبدأوا بقتاله ص 37. وبعد القتال والانتصار عليهم ما الذي يحدث لهم ولأموالهم وسلاحهم! وجميع هذه الأمور مفصلة على الأسس الشرعية. وكان من الطبيعي، وأيام المماليك أيام جهاد، أن يخص المؤلف الجهاد وقسمة الغنائم فصلاً طويلاً ص 42 - 47، وهو آخر فصل في الكتاب. يصدر الطرسوسي الفصل بقوله: "اعلم أن الجهاد فرض كفاية في غير نفير عام، وإلا ففرض عين. وقتال الكفار واجب وان لم يبدأونا". ص 42 ونحن لا ننوي أن نلخص هذا الفصل هنا فقراءته أولى. على أننا نود أن نحيل القارىء الى الفصل بالافرنسية الذي سماه محمد مِنَصْري "المسائل الرئيسية في كتاب التحفة ص 61 - 91 ففيه من المقارنة بآراء فقهاء آخرين ما يشبع نهم القارىء ذي الشغف بمثل هذا الموضوع. 5 للطرسوسي خمسة عشر مؤلفاً لم ينشر منها قبلاً سوى اثنين هما "أنفع الوسائل لتحرير المسائل" وهو بحث فقهي دقيق وكتاب "الإعلام في مصطلح الشهود والحكام" وهو أشبه بدليل تقني لمصلحة القضاة ونوابهم وكتاب التحفة هو الثالث. وقد فحص المحقق الكتابين ودرس الثالث دراسة دقيقة وخرج من ذلك بأن الطرسوسي كان ذا مقدرة عقلية كبيرة ومعرفة فقهية واسعة وعميقة ص 57 - 58. وإذا تذكرنا أن المؤلف فرغ من وضع كتابه وهو في سن الثانية والثلاثين من عمره فهو مولود سنة 721 أدركتا أنه كان فعلاً من كبار علماء زمانه. ونحن إذ نقرأ كتاب التحفة نلاحظ أن المؤلف يذكر أصحاب الرأي الأولىن من مؤسسي المذهب الحنفي. فهو يستشهد، بطبيعة الحال، بصاحب المذهب أبي حنيفة تو 150/ 767 وبكبيري مفسريه وشارحيه الأولين وهما: أبو يوسف، قاضي قضاة الرشيد، تو 182/ 798 والشيباني تو 189/ 805. وفيما بعد يعتمد على علماء الحنفية الثلاثة الكبار: الطحاوي تو 321/ 933 والقُدوري تو 428/ 1036 والسرخسي تو 488/ 1095. ويشير أحياناً الى والده عماد الدين تو 746/ 1345. والكتاب من منشورات المعهد الفرنسي للدراسات العربية بدمشق سنة 1997. وأود أن أشير هنا الى العناية الفائقة التي بذلت في اخراجه. فشكراً لكل من كانت له يد في ذلك.