«إذا ترحَّلْت عن قومٍ وقد قدروا.. ألا تفارقهم فالراحلون هُمُ» هذا البيت العميق في معناه، الرائع في تركيبه، لشاعر العربية الكبير المتنبي، من قصيدته الشهيرة: «واحر قلباه ممن قلبه شبم.. ومن بجسمي وحالي عنده سقم»، التي قالها معاتباً سيف الدولة حين تراخت أواصر العلاقة، وذبلت أوراق المودة، وارتفعت أسهم الوشاة، وباعد الحساد بينه وبين أميره. لطالما كان الرحيل أمرَّ ما يصيب المرء، فالفراق قرارٌ مؤلمٌ، تتجنبه النفوس قدر استطاعتها. لكنَّ ألمه يزداد حين يتلبس بالخذلان، يقول المتنبي: «يا من يعز علينا أن نفارقهم.. وجداننا كل شيء بعدكم عدم». يصعب على النفوس الفراق، فطعمه مر، ومذاقه علقم، وألمه حنظل، فلا شيء يبقى في الروح حين نفارق من نحب، وتنأى بنا الأيام عن لقياهم، ونسلك طريقاً آخر في الحياة، بعد أن كان يجمعنا طريق واحد، ويضمنا مكان واحد. لا شيء يبقى غير الذكريات، التي تربت على كتف المشاعر، وكأنها تواسيها، وربما تعزيها، بأن ما جرى قد جرى. فالرحيل قدر حين يقع، لا بد أن نستجيب له، وأن الرحيل على الرغم من مرارته، وبشاعته، وشدة وقعه على النفس، أكرم بكثيرٍ جداً من البقاء في دوامة المهانة، والتصبر، والرجاء بتغير الأحوال. فحين ينقلب قلب الصديق إلى حجر صلد، وتتجمد مشاعره، ويباغتنا بأمارات النفور، ويرمي بعبارات الجفول، ويرفع حواجبه متنكراً، عندئذٍ لا مقام لنا يطيب، ولا هو في الخاطر حبيب. فمن لا يحفظ الود ولا يصون العلاقة، وهو على ذلك قدير، فإن الرحيل عنه شرف كبير، والحق أن أولئك هم الراحلون. فلا تأسى عليهم القلوب، ولا تأسف على فراقهم العقول، ولا تتألم لوداعهم مشاعر ولا أحاسيس.