الشعراء والكتاب والروائيون ذوات مبدعة، لهم طقوسهم الخاصة، وفلسفتهم وتكوينهم المختلف نفسيا وحسياً، هم موارد ينهل منها الإبداعم ومكامن يُستقى منها الجمال، وهذا الإبداع غالبا لا يعترف بعامل الوقت، فهو زائر جميل متى أراد. ولكن الملاحظ اتجاه كثير من المبدعين إلى العمل الإداري، سواء في الأندية الأدبية أو جمعيات الثقافة أو في القطاعات الأخرى، وهذا قد يتعارض مع سجية المبدع التواقة إلى الحرية بعيدا عن القيود، وقد يكون ذلك على حساب الإبداع في عوامل كثيرة، بينها الوقت والجهد والتركيز والخصوصية والإلهام والصفاء الذهني وغيرها. فهل يؤثر الروتين في التجدد، ويقتل الإداري المبدع، أم أنه باستطاعة المبدعين التغلب على هذه التناقضات والفصل بينها؛ حتى لا يؤثر أحدها في الآخر؟ في هذا التحقيق طرحنا هذا التساؤل الجدلي على عدد من الأدباء والمثقفين، الذين أجابوا وتحدثوا عن رأيهم حول تلك القضية من واقع تجاربهم وخبراتهم، فماذا قالوا؟ «خسارة الإبداعيين» يقول الشاعر عبد الله الخضير: أنا ممن يؤمنون بالتخصصية؛ لأن الإدارة لها مفهوم، والثقافة لها مفهوم آخر. هناك مثقف يعمل ويشتغل على إبداعه، سواء كان هذا المثقف أديبا أو شاعرا أو ناثرا أو ناقدا، فهو مَعْنِيٌّ بجودة عمله الأدبي المتخصص فيه والمخلص له. وهنا ارتباط وثيق بعمله الإبداعي، وبذاته الإبداعية التي من خلالها ينتج عملا إبداعيا كجانب من طقوسه الفنية، فهو قد أخلص لفنه. ولو تحول هذا المبدع إلى أداة إدارية في عمل مؤسساتي، فسيخرج من هذا العالم الإبداعي الجميل، إلى طقوس أخرى مرتبطة بقيم هذا العمل وهذه الإدارة، ومنها: الوقت، النظام، التعاون، والعمل بروح الفريق الواحد. هنا خسرنا مبدعا غير متخصص في أعمال الإدارة، وخسرنا مؤسسة ثقافية أسندت إلى غير متخصص. فخسرنا الإبداع والإدارة. ويتساءل الخضير متعجبا: كيف يكون لمبدع في النحو والبلاغة والأدب والفن والمسرح والعروض أن يكون مديرا ثقافيا لناد أدبي مثلا؟! ويستطرد: سأكون أكثر واقعية من خلال تجربتي القصيرة في إدارة مقهى ثقافي في جمعية الثقافة والفنون بالأحساء؛ حيث عملت سنة واحدة فقط عام 1435، وقد حاولت أن أجمع بين الإبداع الشعري وإدارة لجنة ثقافية، ولم أستطع؛ حيث وجدت نفسي بين لوائح وأنظمة وتوجيهات وتنسيق وإعداد وموافقات وأوراق ودعوات. كل هذا قتل الإبداع لدي، وقيدني حتى على المستوى الأكاديمي، والعمل على إنجاز رسالة علمية، وهي من الإبداع العلمي. وتابع: كثير ممن أعرفهم من أدباء ومثقفين يقولون بعد عمل إداري في أندية أدبية مثلا: نريد أن نتفرغ لأعمالنا ولإبداعنا؛ وهذا يعني أن العمل الإداري للمبدع والأديب والمثقف أكبر قيد؛ لأنه سيرتبط بقيم أخلاقية ومهنية كقيمة الوقت وقيمة النظام وقيمة السلطة إن أحسن التصرف فيها، وسيدخل في إشكاليات مجتمعية ك(الشللية)، التي هي أشبه بمرض السرطان في جسد الإنسان تميته وتقتله. مؤكدا أنه لا مجال للتعميم بعدم النجاح لكل المثقفين في العمل الإداري، بل هناك من أبدعوا في الجانبين، واستطاعوا التوفيق بين الإبداع الذاتي والعمل الإداري، ولكنهم قلة، ونسبة نجاحهم واستمراريتهم تكون محدودة وقليلة. ويرى الخضير أن المبدع سيخرج من سلطة الإبداع إلى سلطة الإقناع؛ لأنه في ظل هذا العمل الإداري سينفصل عن إبداعه، هذا الإبداع الذي يمثل رؤية وابتكارا وقدرة عالية على التخيل. ومن أهم الصعوبات التي ستواجه هذا المثقف المبدع لو ارتبط بعمل إداري، أن الإبداع فضاء حر مفتوح، والإدارة قيد والتزام، كما أن لأي عمل إداري علاقات ولكن فيها خسائر، والإبداع يكون المبدع مع نفسه وذاته ويكسب أكثر مما يخسر. "تجارب ناجحة" وعلى النقيض تماما، كان رأي الكاتب والقاص خالد اليوسف، فما إن طرحنا تساؤلنا عليه حتى أجاب مستغربا ومتسائلا عن الاعتقاد السائد أن المبدع يعيش في برج عاجي؟! أو أنه بوهيمي لا نظام أو نسق حياتي يرتب وقته، ويضبط إيقاع الزمن في مسيرته؟! ويستشهد اليوسف بتجربته قائلا: أحمد الله شخصيا على أني مررت بهذه التجربة ونجحت نجاحا كبيرا، فكنت موظفا في الدولة صباحا إلى العصر، ومن بعد المغرب إلى التاسعة ليلا في جمعية الثقافة والفنون: نادي القصة السعودي. والساحة الثقافية تزخر بأسماء كثيرة وكثيرة في مختلف مجالات الإبداع، ويقومون بإدارات ثقافية ناجحة، لكن المبدع الذي يعرف نفسه أنه لن يستطيع العمل إداريا بالتأكيد سينسحب بطريقة ما! أو يعين من يساعده في عمله الإداري، ورأينا هذا في مواقع كثيرة. أما عن السبب فيقول إن المبدع إنسان ذو طاقة فاعلة وقوية وقدرات لخلق الجديد في مسيرته، وبالطبع ستنعكس على أي عمل يقوم به. ومن الضروري الاستفادة منه، وتسخير هذه القدرات للعمل الإداري، أما إنتاجه الإبداعي وقدراته فلن تتوقف، وقد رأيت هذا من أسماء كثيرة استطاعوا الجمع بين عملهم الإداري وإبداعهم. ويتابع: كمثال عني شخصيا، كتبت عشرات القصص، وأصدرت ثلاث مجموعات قصصية أثناء عملي في الجمعية، أيضا إبراهيم الحمدان كمبدع مسرحي كتب ونشر عددا من المسرحيات وهو رئيس قسم المسرح في الجمعية، وناصر الموسى أنتج عشرات اللوحات التشكيلية وهو رئيس اللجنة التشكيلية في الجمعية، والدكتور عبد الله الوشمي كتب ونشر عشرات القصائد الشعرية وهو رئيس نادي الرياض الأدبي، هذه أمثلة لأسماء لم يؤثر عملها الإداري في نتاجها الإبداعي، ما يؤكد أن هناك فوارق وقدرات لكل شخص يستطيع العمل عليها وتسير إلى النجاح والتميز، وختم بقوله: «القصيبي كم كان مشغولا وما أجمل إبداعه». «تزاحم الأضداد» واتفق كثيرا الأستاذ الأكاديمي في الأدب والنقد د.عبد المحسن القحطاني مع مقولة اليوسف: «القصيبي كم كان مشغولا وما أجمل إبداعه»؛ حيث يرى الدكتور القحطاني أن الإبداع ينمو في حضن التناقضات، وهو لا يحتاج إلى تفرغ من عمل، بل إن المبدعين يعملون وينتجون ويزداد إنتاجهم إبداعيا؛ لأنهم مشغولون بأشياء، ولن يصنع الإنسان إلا تزاحم الأضداد في جوفه، فلا نقلق على المبدع؛ لأنه سينتج مثل المبدع الراقي د. غازي القصيبي كم هو مشغول! وما أجمل إبداعه، مضيفا: قيل إذا أردت أن تنجز عملا فأعطه المشغول، العمل يبدع ويحرض، وما أجمل أن نشم رائحة العمل في الإبداع، الإبداع كما قلتم لا يعرف وقته أو حضوره، ربما يستدعيه موقف حدث في العمل أو في الطريق منه وإليه، مستدركا: أن الإبداع الشعري أكثر حظا؛ لأنه أسرع إلى الخروج، ولا يحتاج إلى وقت طويل، أما غيره فيستدعي وقتا طويلا أشهرا أو تزيد، وهذا قد يتأثر بالعمل الإداري إلا من استطاع أن ينصف أوقاته بعضها من بعض. «تفرغ المبدعين» ويؤكد الروائي محمد المزيني أن ارتباط المبدع بالمهمات والعمل الإداري يعد إشكالية كبيرة جدا لدى المبدع، ليس هذا الارتباط فقط! بل هناك ارتباطات أسرية واجتماعية، جميعها أجدها عوامل مؤثرة في إبداع المبدع، سواء كان روائيا أو شاعرا أو قاصا. والسبب كما يراه المزيني أن المبدع مرتبط بالحالة، وهذه الحالة لا تعترف بالوقت؛ بمعنى أنها لا ترتبط لا بزمان أو مكان، عندما تأتي هذه الحالة الشعورية التي يحلق معها، وسرعان ما يحتاج إلى الفرصة «فرصة الكتابة»، وأستشهد بقوة هذه الحالة بذكر موقف لأحد أصدقائه من القاصين، الذي جاءته حالة كتابية قصصية، وتحتاج إلى كتابتها أثناء قيادته سيارته، فاضطر إلى التوقف فلم يجد ورقة، فاتجه لأحد المحال ليشتري أوراقا فلم يجد، فاستعان بورقة كرتون مستهلكة ليكتب عليها، وكما يقول المزيني: وبالفعل كتب حينها قصة جميلة جدا ونشرت أخيرا. ويعود المزيني ليؤكد أن هناك بعض الإدارات التي تمنح المبدع الفرصة للكتابة؛ إذ ليس عليه كموظف مهمات كثيرة، لكن المشكلة في الإدارات المرتبطة بالعمل الميداني أو بلجان محددة لتسليم مهمات في وقت معين، ولا تمنحه الوقت لإبداعه وما يرد إليه من حاله، كون المبدع دائما مرتبط بالحالة، والحالة هي التي تحكم هذا النص الإبداعي، وعندما لا تتوافر الفرصة للكتابة عاجلا، فإنها ستتلاشى وبذلك يخسرها. وتمنى المزيني لو أن من بين برامج وزارة الثقافة استخلاص المبدعين الحقيقيين لأعمالهم وكتابتاهم؛ لأنهم هم الضخ الحقيقي لوجدانيات ونفسيات المجتمع، وهم الذين يرون ما لا يراه غيرهم، ويعكسون معاناة الناس، ويقدمون لهم نصوصا تحمل المشافاة والتسلية والتبرير لبعض الظروف التي قد تمر على كثير من الناس. فالقصة والحكاية والشعر أحيانا تتخذ كالمراهم التي تعالج كثيرا من الجروح التي تحدث لأرواح الناس، حتى في المسائل العقلانية، أو التي لها ارتباط بالعقل، تحتاج إلى التأويل والتحليل والتفسير لتسهم الأعمال الأدبية مباشرة من خلال الرؤية الفلسفية التي يتبناها هذا النص الأدبي. لذلك نتمنى على وزارة الثقافة أن تبحث عن هؤلاء المبدعين وتضعهم في أماكنهم الصحيحة، وبما أن لدى المبدع مشروعا ما يريد أن يقدمه، ولا تسمح له الفرصة بإنجازه، نقترح أن يكون هناك نظام معين، مثل نظام تفريغ الأساتذة بالجامعات لتقديم أبحاثهم ودراساتهم لأشهر معينة لإنجاز هذه الأعمال، ومثلما تفعل كثير من الدول الغربية؛ إذ إن هناك بعض الدول ومنها دول خليجية أصبحت تستقطب بعض المبدعين من دول العالم، وتوفر لهم كل الإمكانات المناسبة لإنجاز أعمالهم الروائية، فلماذا لا يكون لدينا هذا النظام، خاصة أن المبدع لدينا مع الأسف يعاني معاناة شديدة من الوقت والمكان والعمل، وربما يعاني ماديا، ومع ذلك نجده يتفانى لإنجاز هذه الأعمال، وبالتالي يجب أن تقدر هذه الأعمال ويقدر هذا المبدع. الحكمي:تولد الأفكار وتقتلها الانشغالات "قلة الإنتاج" وتجيب الروائية د.عائشة الحكمي عن تساؤلنا بقولها: إن قضية تفرغ المبدع قضية جدلية من الصعوبة الوقوف معها أو ضدها، غير أن الإبداع يولد على الأغلب في رحم الألم، ومن المحفزات لاستثارة خروج النص أن يكون المدخل قويا، يهز مكامن الامتياح، وهو عمق وثراء وغنى تلك المنابع معرفيا، وفي اعتقادها أن ذلك أهم زاد للمبدع، ثم تأتي المحفزات والمثيرات، ومنها الدخول في مدارات المخاض تجربة ألم أو أزمة صدام أو صراع يقدح الشرارة، فإذا كان المبدع يمتلك العزيمة والإرادة الحسية والنفسية، فسيدع ذلك المارد يترجل بحرية. أما إذا كان المبدع من أصحاب التأجيل والتسويف، فسيتبخر الحلم والحالة، وهذا يعني أن انشغال المبدع ليس عائقا وليس مشجبا نعلق عليه التسويف، ففي كثير من الأحيان المعاناة والازدحام في الحياة خير محفز، وما ينتجه المبدع وهو متأزم مكفهر أصدق فنيا. وأردفت أن في عالم الإبداع كثيرا من المبدعين يعيشون في محيطات المعاناة والانشغالات والكفاح والكدح، ودخلت أعمالهم قاموس الخلود بجدارة، إذن المسألة الإبداعية لها طقوسها، ومسألة تفرغ المبدع قد تكون مفسدة في حالات محدودة، لكن الانشغالات تنعكس سلبا على ضعف المدخل المعرفي وقلة الإنتاج. وعن تجربتها مع العمل الإداري بالنادي الأدبي والإنتاج الفكري والعمل الأكاديمي والمشاركات في المشهد الثقافي تقول: كل ذلك سرق مني أوقات الإبداع، وهمش أفكاري التي كانت تولد وتموت في اللحظة ذاتها، التأثير السلبي يحري حتى على التحصيل المعرفي، نقتني مصادر المعرفة ونصفها في المكتبة ولا نمر عليها إلا نادرا، عدا عن هدر الوقت في انشغالات حياتية أخرى، ولا يعني ذلك أنني أبرئ نفسي من الجناية على نفسي، فقد أسهمت كثيرا في ضياع الفرص لعدم إعطاء الوقت الكافي للإبداع. "اشتراطات النصوص" في حين يرى الكاتب والروائي عادل النعمي، أن الأمر يختلف من شخص لآخر، ولكن من المعلوم كما يقول غوستاف لوبون، في كتابه «سيكولوجيا الجماهير»: إن الفرد يتغير تفكيره حين يكون داخل مجموعة نتيجة تأثيرها فيه، إذن العمل في النوادي يحد من الإبداع إذا أصبح المبدع متأثراً بالاشتراطات للنصوص التي يكتبها وفق أيديولوجية مجموعته، فتحد من مدى إبداعه؛ لأن الإبداع عندما تصنع له حدود يفقد سحره وجماله، ويصبح مجرد منتج تجاري إذا صح التعبير، وهذا ملحوظ، فالكتاب الذين نالوا «البوكر» أصابتهم لعنة، حتى إنهم لم يدخلوا القائمة الطويلة للجائزة، ربما؛ لأن الجائزة جعلتهم أكثر حذرا في إبداعهم لكي يعودوا إلى الأضواء من جديد، ففقدوا الإلهام، في حين أنه يجب أن يكون المبدع مؤثرا لا متأثرا، فيصنع واقعه الخاص وفق طريقته التي يرتضيها، لا يهتم إذا نال الثناء على أعماله ونشرت أم بقيت حبيسة خزانته. وبالتالي عمل المبدعين في الأندية الأدبية أو جمعيات الثقافة يحد من الإبداع نتيجة تأثر المبدع بالاشتراطات للنصوص التي يكتبها وفق أيديولوجية مجموعته التي ينتمي إليها، فتعلوا الخطابية والمباشرة مهما حاول تغليفها بأساليبه الفنية التي يتقنها. فالمبدع حينما يضع نفسه في أي إطار يفقد إلهامه! وهناك فرق بين الصناعة ووضع حدود للإبداع وفق منهج معين، فليس هناك أصدق من الأمهات اللاتي قمنا برثاء أولادهن، ولكن كل هذا الشعر فاشل تقريبًا؛ لأن الصناعة غابت، بينما قصيدة أبو العلاء المعري «غير مجد في ملتي واعتقادي» أصبحت من القصائد الخالدة، لماذا؟ لأنه أدرى بأدوات صنعته، وليست هناك حدود لإبداعه، فقد رثا بفلسفته الخاصة، فأصبح نصه يخترق الزمان ليدرس عبر الأجيال. الخضير: الإبداع فضاء والإدارة قيد القحطاني: تزاحم الأضداد يصنع الإنسان اليوسف: الطاقة الفاعلة تخلق الجديد المزيني: تفرغ أصحاب المشروعات ضرورة النعمي: الأطر تفقد المبدع إلهامه