التفريغ للكتابة الإبداعية "الأدبية أو الفكرية الثقافية" بمثابة حُلُمٍ لكل كاتب يرى أن أفضل ما يجيد فعله هو الكتابة. مدرسا كان أو مهندسا، طبيبا أو عاملاً، إلى آخر المهن التي تقتطع الجزء الكبير من وقت وجهد الكتّاب المتورطين في مهن، ليست هي شغفهم الأكبر ولكنها لقمة العيش، في بيئة لا يستطيع فيها الكاتب أن يعتاش من الكتابة والتأليف الأدبي. فهل من الممكن أن تقوم المؤسسات الثقافية الرسمية "هيئة الثقافة، مثلاً" بالدور الحاسم لتفريغ الكاتب والمثقف. إن التحول لتفريغ الكتّاب والمبدعين لإنتاج الأعمال الأدبية فقط، بات مسألة مُلحّة في مشهدنا الأدبي والثقافي المتنامي. لا يمكن اليوم أن نتحدث عن نهوض ثقافي بلا رعاية كاملة. ولكن هل حقاً يمكن لهذا "الحُلم" الثقافي أن يتحقق، هذا ما نحاول مناقشته في هذا الملف: "التقاعد المبكر" بداية يرى الشاعر عبدالوهاب أبو زيد أن التفرغ للمشهد الثقافي السعودي مسألة هامة وحتى لمشاهد ثقافية أخرى. وربما تكون أكثر أهمية بالنسبة للمشهد الثقافي السعودي لاعتبارين اثنين، أولهما غنى هذا المشهد وتعدد أطيافه وكثرة مبدعيه "إذا ما قورن بالمشاهد الثقافية الخليجية على الأقل". وثانيهما هي الحاجة لدعم المثقفين الذين هم الوجه المضيء لكل بلد. فالمثقفون والفنانون بمختلف أطيافهم هم الأقدر على منح صورة مشرقة عن أي بلد من بلدان العالم. ويقترح أبو زيد أن تشارك الجامعات والمؤسسات الأكاديمية بتقديم منح سنوية للأدباء للتفرغ كما يفعلون في الغرب، غير أن التفرغ للكتابة هو حلم شبه مستحيل يراود كل كاتب؛ كما يعتقد. مضيفا: ربما يكون الحلم الأقرب للواقع في هذه الحالة هو أن يستطيع الكاتب "الموظف بالضرورة" الخروج من جحيم الوظيفة اليومية بتقاعد مبكر يضمن له على الأقل أن يمضي ما بقي له من العمر متفرغًا لمعشوقته الكتابة التي لن تخلص له إلا بقدر ما يخلص لها. "صناعة الثقافة" ويرى الشاعر أحمد الملا أن مسألة تفريغ الكاتب وعموم المبدعين في مجال الثقافة والفنون أيضا هي لحظة جوهرية في حياة أي أمة. مضيفا: التفرّغ هو تحويل هذه الهواية إلى حالة احترافية جادة، تكون المسؤولية فيها أكبر على الطرفين، المبدع والمؤسسات. مؤكداً: لن يكون هنالك نهضة ثقافية أو فنية بلا تفرّغ، خاصة وأن ليس هنالك عائد كبير من مجالات الثقافة والفنون في العمل الثقافي والفني. موضحا: هنالك تجارب في مختلف بلدان العالم حول تفريغ الكتّاب، تجارب صيغت، وكانت الصيغة الأولى لها تعتمد على السوق التجاري للثقافة لكي يكفل تفريغ المثقف عبر تحويل مادته إلى صناعة. ولكن لغياب هذه الصناعة في العديد من دول العالم الثالث استعاضت الحكومات عبر مؤسساتها الثقافية المعنية بتفريغ المثقف ليتسنى له مواصلة ابداعه. مؤكداً ضرورة دعم الثقافة وتحويلها لصناعة ومنها الجانب الذي يتعلق بتفريغ الكاتب. فالتفرّغ له برامج موجودة حتى في بعض الدول العربية، التي تبنت مبدعيها وفرغتهم للكتابة. هنالك تفرغ على مستوى الأعمال الكلية وهناك التفرغ الجزئي وهنالك التفرّغ الذي يأتي من خلال برامج الإقامة الإبداعية، أن يكون هناك مشروع ثقافي يتم التفرّغ له. وأيضا لدينا التفرّغ المبني على فرصة تنافسية لعدد من المقدمين للحصول على فرصة التفرغ، هنالك العديد من أشكال التفرغ، وهي تحتاج للدراسة ومن ثم المبادرة لتحقيقها". "احتراف الكتابة" أما الروائية سارة العليوي فقد تمنت أن تسارع الجهات المعنية بتفريغ الكتّاب للعمل الأدبي، متسائلة: هناك من يعمل في بعض المؤسسات الثقافية مثل المكتبات العامة، وليس له علاقة بالثقافة والكتاب. فلماذا لا تتبنى الوزارة من خلال المكتبات أو مؤسسات ثقافية أخرى، مسألة تفريغ الكاتب. مؤكدة أن ما سوف يقدمه التفريغ للكاتب نفسه وللمشهد كبير جدا. أولاً، سيكون الكاتب جاداً أكثر في القراءة والكتابة، لن يتعامل مع نفسه كهاوٍ بل كمحترف له برنامج يومي منضبط، تماما كما يفعل الرياضيون، متابعة الكاتب المتفرغ للمشهد ومستجداته ستكون أكبر وبالتالي انتاجه سيكون أكثر وأجود". "سلم الموهبة " وأشار الكاتب والشاعر شتيوي الغيثي بأن حالة تفرغ الكاتب أو المبدع يمكن أن تضيف إلى المشهد الثقافي متى ما استثمر الكاتب هذا التفرّغ في الإنتاجية المعرفية أو الثقافية أو الأدبية الإبداعية، موضحا: ربما على مستوى الكم سيكون أكثر إنتاجية، بسبب التفرغ، وهو ما نلاحظه اليوم مثلا، أن الإنتاج يزداد عند العديد من الكتاب بعد دخول مرحلة التقاعد، معلقا: أصر على إضافة "ربما" لأنني لست واثقاً من ذلك في الحالة الثقافية والإبداعية في المشهد الثقافي السعودي وأقصر كلامي هنا على الثقافة السعودية التي انتمي إليها وأعرفها أكثر من غيرها، إذ إن دخلاء الأدب والإبداع أكثر من الهم على القلب كما يُقال. وما أن يتم تفريغ هؤلاء حتى يمتلئ المشهد الثقافي بمقتحمي المجال الابداعي، فإذا كان اقتحام الابداع من غير أي إبداع حقيقي حاصل الآن حتى من غير تفرغ، فكيف إذا كانت هناك عملية تفرغ للكتّاب ودعمهم من المؤسسات الثقافية سواء كانت على مستوى الوزارة أو على مستوى المؤسسات الأدنى منها. ويرى الغيثي إن المبدع سوف ينتج إبداعه حتى في أعز أوقاته انشغالا ولم تمنعه الوظيفة وعدم التفرغ من أن ينتج العديد من الروائيين أوالشعراء أو الكتّاب مؤلفاتهم، بل إن الأدب السعودي يزخر بالعديد من الأعمال ذات القيمة الفنية الجيدة، مضيفا: يمكن التوسط في هذه المسألة أن من يثبت أن لديه إبداعا مشهودا له أن يتفرغ أكثر، وعدم تفريغ الآخرين الأقل موهبة لكن هذه أيضا تحتاج إلى ضبط. وستدخلنا في اشكاليات عديدة في تقييم الأعمال ذات القيمة". "ضوابط صارمة" الشاعر زكي الصدير رأى في "التفريغ" حلماً لجميع الأدباء الموظفين الذين لا يملكون -بسبب مشاق الحياة- الوقت من أجل الالتفات لمشاريعهم الأدبية المحتاجة للصمت والعزلة والتفرغ الكامل. واضاف: ولكن هذا المطلب الملح يحتاج للكثير من المقدمات النسقية والسياقية، وللكثير أيضاً من الضوابط الصارمة والواضحة حتى يقر دون أن تؤثر عليه شللية المثقفين التي ستحوّله إلى ديوانية علاقات عامة". "وظيفة أديب" واشترط الكاتب مفرج المجفل خلال مداخلته أن لا يكون التفريغ بمثابة وظيفة أخرى تحت لافتة "أديب".. أظن أن في ذلك تحجيماً للحالة الإبداعية. مبيناً بأن الكتابة الأدبية في مضمونها تستدعي التفرغ لسبر أغوار حالة أو دراسة ثقافة تتطلب البحث والمراقبة قبل أن تأخذ شكلها الأدبي البديع في قصة أو قصيدة أو رواية, فغاية الأدب تتجاوز الشكل الجمالي وتزجية الوقت لتشكل وجدان المجتمع، وتعكس صورته وتنتصر لصوت الوعي فيه. موضحا بأن مسألة مهمة مثل هذه تستحق الدعم الذي لا يعني بالضرورة استحداث وظيفة بمسمى أديب، يخضع فيها المبدع لأنظمة ولوائح من خارج متطلبات الجنس الأدبي. إنما الدعم يستدعي أن تقوم الجهة المعنية ومؤسسات المجتمع ووسائل الإعلام بدورها في ذلك. ويرى المجفل أن تحكّم رأس المال في الإبداع يجعل المبدع خادماً لتوجه أو جهة مما يتعارض مع حقيقة الإبداع، بينما تحكم الإبداع في رأس المال سيخلق فضاء أرحب للعطاء فيما يخدم المجتمع. مضيفا: ما يحتاجه المبدع في أي مجال هو الدعم والاستقلال وليس التوظيف والتوجيه، ولعل أقرب الحلول لتحقق ذلك في الوقت الراهن هو أن يلقى الكاتب الإبداعي ما يلقاه الباحث أو الدارس في التعليم العالي من دعم دون قيد وظيفي. الملا: الهواية لا تقدم نهضة ثقافية سارة العليوي: احتراف الكاتب يجوِّد نتاجه أبو زيد: منح التفرغ السنوية تكفي الحاجة الصدير: «الشللية» ستحوّله إلى ديوانية علاقات الغيثي: عبث الدخلاء يحتاج إلى فرز