استمرارا لما يقوم به (اليوم الثقافي) من قراءة للواقع الثقافي (الراهن والمستقبل) عبر آراء الكتاب والمثقفين والمهتمين بالثقافة ودورها في بناء الانسان والتصدي للتيارات الوافدة من الثقافات المغايرة المتضادة والمغرضة, نتناول في هذا العدد قضية هامة تعني المثقف والمبدع وهي قضية التفرغ من اجل الابداع ونحن اذ نتطرق لهذا الامر لاندعي اننا قد اتينا به من فراغ او ابتدعناه ولكنا نراه متحققا في العديد من البلدان العربية والغربية. ولعلنا من منطلق الواقع الذي يعيشه المثقف والمبدع والذي يفرض عليه الكثير من الجهد والمال لكي يساير الحركة الثقافة محليا وخارجيا رأينا ان نتطرق الى هذا الموضوع الهام الذي نرى انه من الاهمية بمكان لكل المبدعين والمثقفين والمفكرين من ابناء هذا الوطن.. اننا هنا نطرح رؤيتنا وافكارنا حول هذا الامر عبر اسئلة وجهناها الى العديد من مبدعينا وكالعادة لم نحظ من الكل وان حظينا من البعض بالاجابة. مهمة ولكن بضوابط في البداية يقول الشاعر جاسم الصحيح: موضوع تفرّغ المبدعين موضوعٌ شائكٌ بالنسبة لي فلا يمكن تناوله دون الإصابة بجروح نفسيَّة.. ولو طفيفة ! في البداية ..لا بدّ من التأكيد على أنّ الدافع وراء كلّ كتابة إبداعية هو دافع ذاتي محض بحيث لو كان المبدع مشغولا طوال يومه فلن يهجر إبداعه لانّ الإبداع يعرف كيف يتسلّل إلى أغوار النفس البشرية حيث يتمّ تصفيته وصهره وقولبته ومن ثمّ إخراجه عبر شقوق الأقلام إلى الناس. ولا شكّ أنّ التفرّغ من العمل مع ضمان الإعالة سوف يمنح المبدع فرصة كبيرة من الوقت للالتفات أكثر وأعمق إلى إبداعه .. والوقت بالنسبة لأيّ مبدع يبقى قليلا حتى لو كان هناك مئة ساعة في اليوم.. الوقت بالنسبة للمبدع لم يكن صديقا يوما ما ومن العبث أن ننسبه إلى الأعداء أيضا : ندري بأنّ الوقتَ ليس صديقَنا ونخاف ننسبُهُ إلى الأعداءِ إلا أنّ الخوف الكبير وراء مثل هذا التفرّغ الإبداعي مع بقاء الراتب الشهري ساري المفعول ..الخوف الكبير يكمن في أن يكون هذا التفرغ مصيدةً تضع الإبداع في قفص الجهة التي سوف تفيض على المبدع بالرزق ، وعندما يصطدم الرزق والإبداع يوضع المبدع على محكّ الامتحان الإنساني. ومن العبث أن نقارن بين التفرغ الرياضي والتفرغ الإبداعي حيث أنّ الرياضةَ -في معظم إن لم أقل في كلّ بلدان العالم- واقعةٌ فريسةَ التسييس لامتصاص الطاقات الشبابية الهائلة وتوجيهها خارج الوعي .. بينما الإبداع حالة قائمة في الأساس على الوعي ولا تنفكّ عنه ومتى ما وقع هذا الإبداع فريسة للتسييس الرسمي انهدرت طاقته وفقد معناه معنى ما تقدّم أنّ الثقافة التي تأتي من الإبداع المتفرِّغ (المُعال رسميا) سوف تكون ثقافة رسمية خالصة وهذا أخطر مرض يمكن أن تصاب به الثقافة حيث انّها لن تتجاوز في إنتاجها إنتاج معمل من معامل الزيت أو الغاز تُدار مكائنه متى ما أُريد لها أن تُدار .. ويكون إنتاجه قائما على العرض والطلب ! إنّ الإبداع لا ينمو في غير تربة الحريّة .. بينما الإعالة الرسمية ذاتُ أشداقٍ واسعةٍ قادرةٍ على ابتلاع الحرية بكلّ هوامشها ناهيك عن متونها .. الأمر الذي لن يتيح المجال أمام المبدع إلا لامتهان الكتابة تحت إرهاب أشباح الراتب الشهري التي تتحكّم في رحلة قلمه على الورقة إنء لم تتحكّم في رحلة مشاعره داخل أغوار النفس ! ولكن هل يعني هذا أن نتنازل عن منحة التفرّغ ؟ لا.. إنّ منحةَ التفرّغ مطلوبةٌ ولكن بضوابط تحكم دائرتها الواسعة ..وأهمّ هذه الضوابط هو أن لا تعني المنحةُ استعبادَ المانح للممنوح أو العمل على تطويب المانح عند الرأي العام مقابل أن يضمن للممنوح المعادلَ المادي في نهاية الشهر.. بمعنى آخر ، يجب ألا تكون المنحةُ محنةً على المبدع وإنما أن تكون حقّا من حقوقه الوطنية التي لا تتمّ مجادلته عليها حتى لو سلك طريقا غير الطريق الرسمية في كتاباته ما دام يعمل من صالح وطنيته.. الأمر الذي يجعل المبدع هذا يشعر بالطمأنينة عندما يعبِّر عن رأيه ، ولا شكّ أنّ شعوره بالطمأنينة سوف ينعكس على إبداعه انعكاسا إيجابيا يعادل فضاء الحرية المتاح أمامه دون رقابة .. وحينما يحدث ذلك ، نستطيع أن نزعم بثقة كبيرة أنّ التفرُّغ للإبداع سوف يثري الثقافة .. أمّا التفرُّغ من أجل أن يتحوَّل المبدع إلى آلة رسمية فلن ينتج سوى تزييف الوعي وتدمير الحقيقة ! دعم التطور الفكري أما خالد الشيخ الصحفي والروائي فيرى ان التفرغ للعمل الابداعي مطلب وهو احد وسائل دعم التطور الفكري والاجتماعي والاقتصادي للوطن. معظم الدول المتطورة تخصص مليارات الدولارات لمراكز الابحاث العلمية. ومعظم العاملين في هذه المراكز هم متفرغون للعمل وبمقابل رواتب واغراءات اخرى كالسكن والعلاج وغيرها.. بالاضافة الى النسب المادية من ريع تلك الابتكارات والاختراعات في ظل حماية الحقوق الملكية والفكرية.. نحن كدولة من الدول اكثر حاجة لمنح المبدعين فرصة التأمل والابداع.. لدينا طاقات كامنة في الاداب والعلوم والطب. وهذه القدرات تبحث عن الوقت والمال لتقوم بالبحث والتأليف الا انها تستهلك جُل وقتها في اعمال مكتبية او غيرها من اجل لقمة العيش. الكثير من هؤلاء تتبدد طاقاتهم بين اوراق المعاملات الروتينية في الادارات الحكومية او الشركات .وبعض هؤلاء المبدعين يعملون في وظائف مهنية يستطيع القيام بها اي فرد غير مؤهل.. اننا نخسر هذه الطاقات لأننا لم نمنحها فرصة التفرغ العلمي او الابداعي. فلماذا لا نتعامل معهم كالرياضيين الذين يحصلون التفرغ من اجل الرياضة !! ولنا ان نسأل .. كم عدد هؤلاء المبدعين وكم سيكلفون الدولة؟ لا اعتقد انهم بهذه الكثرة خاصة عندما نتحدث عن مبدعين حقيقيين. واميل كثيرا لتفرغ المبدعين بشكل عام وكبار السن منهم والذين تحول بينهم وبين الابداع الوظائف الروتينية. فانا شخصيا لدى الكثير من الافكار التي لا اجد وقتاً لتنفيذها لانشغالي بالعمل وبالاطفال وهموم الحياة الاخرى. حلم التفرغ القاص سعيد الاحمد من وجهة نظره يرى ان التفرغ الابداعي حلم لا بد أنه راود كل مبدع، وما زال يراود الأكثرية... هناك- كمثال- من يؤجل كثيرا من مشاريعه إلى مابعد التقاعد، للحصول على وقت كافٍ للبحث والقراءة المضنية والحفر وقضاء الوقت الكافي والمناسب لإنتاج منجزه الابداعي.. لا ننكر أن المبدع يحتاج إلى التواجد، والتواصل مع الحياة اليومية- بكل معطياتها- فمن هذه الأرضية يخلق، ويعيد تشكيل الحياة المعاشة في قوالب فنيه تقدم كجزء من نتاجه الابداعي، غير أن الوقت و الكدح عدوان دائمان للفعل الإبداعي! فلا يمكن أن تتخيل أن يتمكن اي من المبدعين من الإشتغال الحقيقي على مشروعه دون تفرّغ أو شبه تفرغ، على أقل تقدير.. اي مشروع ابداعي- بلا حصر- يحتاج إلى وقت وجهد كاف لإنتاجه.. الحفز على الابداع بينما يرى حامد عقيل أن لتفرغ المبدع أثرا في حفزه على الإبداع ، و العمل على تطوير أدواته الإبداعية بعيدا عن كل ما يشغله .. بل إنها أثبتت جدواها في كثير من البلاد و منها البلاد العربية. أما أحلامي و تطلعاتي حول هذه القضية فقد بدأتء منذ سنوات حين علمت بقيام بعض الدول العربية بتحقيق هذا الأمر، و نا قشته كثيرا مع بعض الزملاء المقربين .. و لدي إيمان عميق بأهميته .. لكن على مستوى وطني (المملكة العربية السعودية) أرى أنّ التفكير بأن هذا النّظام قد يُطبّق فهذا ضربٌ من التفاؤل لا مبرر له .. قضية هامة حليمة مظفر / كاتبة وصحفية بجريدة الشرق الأوسط تقول بتفاؤل: ملتقى المثقفين الوطني الذي كان بالأمس حلما وسيصبح في شهر شعبان حقيقة، كما كانت الثقافة مشردة سابقا بين جهات عدة وأصبحت بعد ذلك تحت سقف وزارة الإعلام تمارس دورها الطبيعي في المجتمع، فأحسب أن الحلم والهاجس في تفريغ المبدعين والكتاب سيصبح ذات يوم حقيقة إذا ما قدرنا الثقافة بجوهرها قبل أن تكون شكلا نباهي به وهي فارغة مجوفة من داخلها، وما جاء في سؤال الطرح حلم نكاد نركض خلفه حتى ما أتيناه نحسبه سرابا. إن قضية تفريغ المبدعين قضية هامة جدا ليستوعبها الملتقى الثقافي الأول في محاوره وقضاياه العديدة التي تنتظر البت في أمرها وتحتاج لسقوف هي الأخرى كي يتم تفعيلها، فكما يتم تفريغ الأكاديمي لتحصيل العلم لنباهي بعلمائنا بين الأمم وتفريغ الرياضي ليكون نجما مشرفا لوطنه وعلامة لقوته فإن من باب أولى أيضا أن يتم تفريغ المبدع ليكتب لنا أدبا سيكون مرآة إبداع للمجتمع بعد قرون كما هو حال الأدب شعرا ونثرا منذ الدولة الأموية والدولة العباسية خاصة في عصرها الذهبي، فقديما في تلك العصور أدركوا قيمة هذا الإبداع الفكري فكان نافذة لنا كي ننظر إليهم من خلالها وعاشت به تاريخا لقرون عديدة ، رغم أنه لم يكن هناك تفرغ بمعناه المتداول بيننا الآن وإنما كانت هناك كتب توزن بالذهب وعطاءات بآلاف الدنانير يحصل عليها كتابها ومبدعوها ليستفيدوا منها في حياتهم فتساهم بشكل مفيد في تفرغهم للكتابة والإبداع وإلا كيف نجد الجاحظ وابن قتيبة وغيرهما قد اخرجوا عشرات الكتب لتتزين بها المكتبة العربية. أعتقد أن قضية تفريغ الكتاب والمبدعين قضية لا يحتمل تأجيلها فما الفائدة من مباهاة المجتمع بالعلماء والرياضيين دون أن يكون ثالثهم وهو المبدعون معهما فالجسد القوي والعلم الكثير لن يكون مثمرا إذا ما كان لديه إبداعا يوجه كل منهما، أتصور أننا وتاريخنا سيكسب تراثا أدبيا فكريا فيما بعد يكون رسالة لجماليات المجتمع الفكرية وحقيقة بنيته الثقافية حينما تفرغ فارغ لكتابته لنا. أما الدكتور عبدالله الفيفي فيرى ان نجاح الفكرة مرهون بالضوابط التي تخضع لها، وإلا ستصبح ترفا فارغا حيث يقول : لاشك أن المثقف (المبدع الحقيقي) في المملكة يتطلع الى مثل هذا (الترف) (وهو ترف : في حسابات المؤسسة التي لا تفرق بين موظف ومبدع) ذلك ان المثقف هنا يجد نفسه دائما مقيدا داخليا وخارجيا، فهو داخليا لايجد المناخ المناسب للإنتاج، أما ان كان مشروعه يقتضي السفر الى الخارج، فمعلوم انه مقصوص الجناح والجيب. فأين سيذهب من بيروقراطية المؤسسات العملية، حكومية أو أهلية؟! غير ان فكرة التفرغ ستكون فعلا محض (ترف فارغ) مالم تخضع لضوابط صارمة، تولي اول المعايير جدية المشروع المزمع إنجازه. على كل حال، كل جديد مرهون نجاحه بالدراسة، والإفادة من تجارب المجتمعات السابقة الى تطبيقه والأخذ به. خالد الشيخ سعيد الأحمد