هو من القضاة المخضرمين، الذين عاصروا القضاء في مراحله الأولى، بل لمّا كان القاضي يقضي في منزله، هذه الشخصية العلمية القضائية هي من السجلات الحافلة عن تاريخ القضاء في المملكة، فحينما يذكر القضاة القدامى في هذا الوطن فلا بد أن يكون اسم الشيخ عبدالله بن دهيش من أوائل القائمة الذين كان لهم أثر ملموس وظاهر في القضاء في هذا الوطن. هو عبدالله بن عمر بن عبدالله بن دخيل الله بن دهيش؛ ولد في الهفوفبالأحساء بتاريخ 20/12/1320ه، وكان والده عمر بن دهيش قد اعتنى بتربيته، فوجهه إلى طلب العلم واللحاق بحلقات الدرس والتحصيل، وكانت الأحساء مركزا علميا وثقافيا جامعا لفقهاء المذاهب الأربعة، وكانت هذه البيئة العلمية المنفتحة على جميع المذاهب السنية لها دور كبير وفعّال في ثقافة وعلم وتفتح عقلية هذا الشاب، فوالده له تأثير عليه في هذا التوجه العلمي من حيث الدعمان المعنوي والمادي، ولهذا فرَّغ ابنه لطلب العلم، ولم يشغله بطلب العيش، فوالده كان ميسور الحال وهو من تجار الخيل، حيث كان ينقلها من الأحساء ويبيعها في الهند – كما أخبرني الشيخ محمد بودي في زيارتي له بمنزله عام 1416ه-، وقد توافرت في عبدالله بن دهيش المواهب في طلب العلم، فمنها الحرص والذكاء والحفظ ونفس لا تشبع من العلم، بل هي متعطشة للنهل من علوم العلماء في عصره، وهذا ما نراه في كثرة مشايخه الذين أخذ عنهم العلم، وتعدد رحلاته العلمية في سبيل طلب العلم، وكان بالإمكان أن يكتفي بعلماء الأحساء، لكن همة نفسه العالية والطموحة والتواقة إلى الاستزادة من كل عالم.رحلة الهند من أوائل مشايخ عبدالله بن دهيش من أهالي الأحساء - وهو أول شيخ تلقى عنه العلم والفقه - هو الشيخ عيسى بن عكاس، درس على يديه جملة من الكتب التي تتميز بالدليل والتعليل، مثل كتاب «الروضة الندية» للعلامة صديق حسن، وكتابه العظيم «الدين الخالص»، والكتاب المبارك «عمدة الأحكام» للحافظ عبدالغني المقدسي. ويروي عبدالملك -ابن عبدالله بن دهيش- عن سيرة والده قائلاً: سافر والده –الشيخ عبدالله- إلى الهند، قلت لعل سفره إلى الهند من تشجيع والده عمر بن دهيش؛ لأنه يخبر الهند ودائم السفر إليها، فهو يعرفها؛ لأنه من تجار الخيل ويصدرها للهند، ولعله اتصل بعلماء الهند آنذاك، ولهذا حض ابنه الشيخ عبدالله بالسفر إلى الهند، وطلب العلم فيها، وكان عمر عبدالله 18 عاما، وهي سن صغيرة، وهذه أول رحلة علمية له خارج الأحساء، وتواصل مع عدد من علماء الحديث في الهند، وأخذ عنهم، ومنهم العالم الشهير نذير حسين، الذي أجازه بمروياته، وكذلك أجازه المحدث شريف حسين، واتصل بالشيخ محمد بشير السهسواني، وهذه الرحلة العلمية للهند كانت لها فتوحات في مدارك الشيخ عبدالله، واتساع دائرة فهمه، وسماحة تعامله مع الناس، واختلاطه بشعوب خارج الجزيرة العربية. مرجع المواريث وعندما عُين الشيخ عبدالعزيز بن بشر قاضياً في الأحساء لازم عبدالله بن دهيش ابن بشر ملازمة دائمة، وأخذ يحضر جميع حلقات الدرس، وقرأ عليه معظم كتب الفقه الحنبلي قراءة بحث وتحقيق، وقرأ عليه كتب التفسير؛ كتفسير الطبري وابن كثير، قرأ عليه ثلاث مرات، وقرأ عليه كتب الحديث؛ كصحيح البخاري ومسلم وسنن أبي داود ومسند الإمام أحمد وبعض كتب الإمامين ابن تيمية وابن القيم، ولعل ابن دهيش التلميذ الوحيد أو من القلائل من تلاميذ ابن بشر الذين قرأوا عليه معظم كتب الفقه الحنبلي المطولة والمختصرة. ولعشق ابن دهيش لعلم الفرائض، درس على عالمين من علماء الفرائض والمواريث في الأحساء، هما: الشيخ أحمد بن علي العرفج، والشيخ محمد بن حسين العرفج علم المناسخات، وعلم المناسخات - كما هو معلوم لدى العلماء وطلبة العلم من أصعب علم المواريث - فليس كل دارس لعلم الفرائض يتقن المناسخات، ويكون ماهرًا فيها، إلاّ أن عبدالله بن دهيش أصبح مرجعا في المواريث عموماً والمناسخات خصوصاً، وإليه يرجع طلبة العلم فيما بعد. شعلة لا تنطفئ وسافر عبدالله بن دهيش إلى مدينة الرياض عام 1343ه، وكان عمره ثلاثة وعشرين عاما؛ لينكب على علماء الرياض آنذاك، ومنهم الشيخ سعد بن عتيق، فقرأ عليه كتاب «بلوغ المرام»، وقرأ على الشيخ سليمان بن سمحان «الرسالة التدمرية» و»الحموية» للإمام ابن تيمية و»القصيدة النونية» لابن القيم، ودرس على الشيخ محمد بن عبداللطيف كتاب التوحيد وغيرها من الرسائل، ولازم علماء الرياض يقرأ عليهم ليلاً ونهاراً في المساجد وفي منازلهم، ولا يفوِّت أي فرصة أو وقت إلاّ في قراءة درس أو مطالعة كتب العلماء أو مذاكرة مع زملائه التلاميذ، فكان شعلة علم لا تنطفئ، ولعل الشيخ ابن بشر هو الذي نصحه بالسفر إلى الرياض، وبعد ذلك حج حجته الأولى عام 1344ه، ليعود إلى الرياض 1347ه، وذلك بعد أن تصدر الشيخ محمد بن إبراهيم للتلاميذ، وكان من زملاء ابن دهيش الشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ عبدالله بن حميد والشيخ عبدالله الوابل، فقرأ عليه كتاب «التوحيد» حفظً،ا وقرأ عليه «زاد المستقنع». وفي مكة، عندما حج ابن دهيش حجته الثانية، استغل وجوده بمكة، فقرأ على الشيخ عبدالله بن بليهد، وكذلك قرأ على الشيخ محمد الشاوي، ليعود إلى الرياض عام 1349ه ملازماً شيخه ومعلمه الشيخ محمد بن إبراهيم، واستمرت ملازمته له ثلاثة أعوام، قرأ عليه كتب الحديث ورسائل ابن تيمية وكتبا لابن القيم، ونظراً لملازمة ابن دهيش لابن إبراهيم خلال رحلتين، فإنه قد حصل علماً كثيراً من شيخه، بل إنه تبناه بحيث جعله يعيد الدروس على التلاميذ في الحلقة، ويقرأون عليه، ويستفيدون من مذكراته وحفظه، حتى أصبح طالب علم قويا ومتمكنا من كل العلوم والفنون التي تدرس في حلقات الدرس، بل أصبح من العلماء المشهورين برسوخه في العلم والحفظ والفهم العميق لمسائل الفقه. أعمال ووظائف بدأت حياة عبدالله بن دهيش في القضاء عام 1351ه، وكان عمره 31 عاما، عندما عُين قاضياً في مسقط رأسه الأحساء، واستمر قاضياً حتى تاريخ 1359ه، ثم عين قاضياً في حائل من تاريخ 1359ه حتى عام 1360ه، حتى صدر قرار ملكي بتعيينه نائباً لرئيس هيئة التمييز في مكة، نائباً لشيخه محمد بن مانع، الذي هو رئيس هيئة التمييز، ولعل شيخه ابن مانع هو الذي رشحه للملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- ليكون نائباً له، ومع علمه القضائي تولى التدريس في الحرم المكي ومساعداً لرئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعضواً في مجلس المعارف. وفي تاريخ 1363ه عُين رئيساً لمحاكم الرياض، وفي عام 1365ه عُين رئيساً لمحكمة الخبر بالشرقية، وفي عام 1371ه عُين رئيساً لمحاكم مكة مع تدقيق قرارات المحكمة المستعجلة، واستمر على هذا العمل القضائي رئيساً لمحاكم مكة حتى تاريخ 27/ 4/ 1383ه، ثم نُقل عضواً برئاسة القضاء حتى طلب التقاعد فأجيب طلبه بتاريخ 15/2/1384ه، حتى استحق أن يلقبه بعض العلماء بقاضي العواصم، حيث إنه كان قاضياً في الرياض وهي عاصمة المملكة، وقاضياً في مكة وهي العاصمة الدينية، وقاضياً في حائل وهي عاصمة منطقة حائل، وقاضياً في الهفوف وهي عاصمة الأحساء، ولقد وصفه الشيخ علي الهندي في كتابه «زهر الخمائل في تراجم علماء حائل» قائلاً: كان قوياً جريئاً في أحكامه مقداماً لا يقوم بمعارضته أحد، يحب العلم، ويحدثني الباحث محمد بن عبدالملك بن دهيش قائلاً: إن جدي -رحمه الله- كان يدرس التلاميذ في منزله. إصلاحات القضاء وكان القاضي عبدالله بن دهيش عقلية متقدمة ومتجددة، وتحب التطوير والتحديث، فكان أول عمل إداري فني أحدثه وهو أول عمل إداري يستحدث في محكمة الأحساء، وقال ابنه الشيخ عبدالملك بن دهيش -رحمه الله- في نبذته عن والده وخلال عمله في محكمة الأحساء: قام والدي بتنظيم المحكمة، وتسجيل الصكوك في سجلات خاصة، ولا تزال تلك السجلات مكتوبة بخط يده، وأمر الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- أن تعرض جميع الصكوك على عبدالله بن دهيش، فضبطها في سجلات خاصة، ودون تطوراتها وصفة انتقالها، سواء ببيع أو بإرث أو بوقف أو بقسمة، وضبط حدودها وحقوقها الجارية عليها من ماء ونحوه، وقال أيضاً: قام والدي بتنظيم سجلات محكمة حائل، وتسجيل جميع المرافعات والصكوك في سجلات خاصة، حيث كانت بعض الأحكام تصدر شفوياً في مجلس القاضي من دون تدوينها في سجلات. مؤلفات وكُتب وألّف عبدالله بن دهيش عدة مؤلفات في الفقه، ومنها (المناقلة بين الأوقاف)، كتاب (مُغني ذوي الأفهام)، (الفقه القيّم) (كتاب القضاء) (تفسير سورة الفاتحة)، (كتاب الطهارة والصلاة)، (كتاب المناسك)، وقد قام ابنه عبدالملك بن دهيش بنشر مؤلفات والده كلها، سواء المخطوطة التي لم تنشر من قبل، أو إعادة نشر ما طبع، وذلك من بره بوالده بعد وفاته. وعلى صعيد آخر، فإن ابن دهيش درّس كثيرا من التلاميذ في الأحساءوحائلومكة، فكان معلماً مباركاً في هذه المدن، ونفع الله به في تدريسه، وقد درّس الفقه والحديث والتفسير والتوحيد والفرائض، فكان منهم طلبة علم ودعاة وقضاة تخرجوا على يديه -رحمه الله-، وكان يقوم بالإمامة والخطابة في جوامع هذه المدن التي قضى فيها. يقول عنه تلميذه الشيخ محمد بن جبير -رئيس مجلس الشوى سابقاً-: الشيخ عبدالله بن دهيش من القضاة الأفذاذ بالمملكة، وبرز في مهنة القضاء، لا شك أنه ليس علماً فقط - أي العلم بالقضاء - لكنه فهم للواقع وإدراك لظروف القضايا، فهو يبحث في وقائعها وفي نصوصها وفي فهمها، تجده لا يكتفي في كتاب واحد ولا في علم واحد، إنما يبحث في كتب كثيرة، ويقرأ حتى يصل إلى الحكم الذي يرضى عنه، وبعد ذلك ترسل إلى الشيخ محمد بن إبراهيم ويصدق عليها، على الرغم من أن رئاسة القضاة لم توافق عليها إلاّ أن الشيخ محمد يوافق على أحكام ابن دهيش. وعبدالله بن دهيش له مشاركة في الصحف بكتابة المقالة العلمية، ومنها «الوقف الأهلي الصحيح لا يحل» نشر في جريدة البلاد السعودية، وله بحث نشر في جريدة البلاد السعودية بعنوان «أحكام القضاء لا يجوز نقضها إلاّ ما خالف نصه من كتاب الله أو سنة رسوله»، وله مقالة عن تاريخ الأحساء، وهي نبذة نشرت في جريدة البلاد السعودية وغيرها من المقالات. حكمة وهدوء واتصف عبدالله بن دهيش بالحكمة والهدوء والرصانة؛ إذ كان ليناً مع الضعفاء، وذا شخصية جذابة، وكان منزله في مكة مفتوحاً للزوار والضيوف من خارج مكة، وقال الباحث محمد بن دهيش: إن جدي -رحمه الله- كان يعد مخيماً سنوياً يتكفل به مادياً في الحج، ويحج معه أصدقاؤه ومن الأقارب وغيرها كل عام، ومنهم صديقه الشيخ عبدالله الوابل الذي يحج معه كل عام حتى توفي -رحمه الله-، وقد استمر الشيخ عبدالملك ابنه البار امتداداً لسيرة والده، فكان يقوم كل عام بإعداد مخيم في منى يتوافد عليه كل من أراد الحج. وعندما تقاعد ابن دهيش عن القضاء، مكث في مكة مفيداً ومتفرغاً للتأليف والقراءة، وكان من أعظم المستفيدين منه ابنه عبدالملك، الذي عين قاضياً في مكة ثم رئيساً للمحكمة، فكان يرجع إليه في القضايا والأحكام، فيجد عنده الأجوبة السديدة المحكمة، وقال المؤرخ حمد الحقيل -رحمه الله-: إن ابن دهيش كانت صكوكه في غاية القوة والمتانة والسداد، ذاخرة بالأدلة من الكتاب والسنة وأقوال الفقهاء. وفي عام 1406ه، توفي في مكة وكان عمره 86 عاماً، وصلي عليه في المسجد الحرام. وفي الختام، أشكر الباحث محمد عبدالملك بن دهيش على تزويدي بسيرة جده وبعض الوثائق وقصاصات الصحف، فهو لم يبخل بأي معلومة محررة أو شفهية عن جده، فجزاه الله كل خير، وجعل هذا في ميزان حسناته. الباحث محمد بن عبدالملك بن دهيش عبدالله بن دهيش وبجانبه ابنه عبدالملك في المشاعر المقدسة خطاب ابن دهيش أمام الملك سعود رحمه الله في صحيفة البلاد من مؤلفات وتحقيقات ابن دهيش ولد عبدالله بن دهيش في الهفوفبالأحساء عام 1320ه صلاح الزامل