آمل أن تجدك رسالتي هذه وأنت بحالة روحيّة جيدة. لقد استلمتُ رسالتك الأخيرة وقرأتها، وقد رأيت أنّها مشحونة بعواطف عميقة، وحتى الآن، فإنني لا يمكنني أن أصدق أنك تكمل عامك الخامس والعشرين في هذه اللحظة. أتذكر جيدًا ذلك اليوم الذي انتقلتُ فيه للخامسة والعشرين من عمري. كنتُ أعيش في باريس، وقد أحضرت لي زميلتي في صفّ الفلسفة كيكة في عيد ميلادي تعبيرًا عن المودة والوئام، وكان مكتوباً عليها عبارة لسيمون دي بوفوار "أن تعيش، هذا يعني، أن تكبر في العمر، لا تنتظر شيئاً غير ذلك". ولكن كما تعلم، تكمن الحيلة، إن استطعتَ التحايل على الحياة والزمن، أن تكبر عقليّاً وتتّسع روحيًا وأنت لا تزال تحبو في عقد العشرينات من عمرك. أصعب ما في التقدم في العمر هو قبول هذا الأمر، أعني الرضوخ لفكرة أنك يومًا عن يوم، أنتَ تكبر. يقول الفيلسوف والكاهن الفرنسي بيير شاردان، وهو يعتبر التقدم في العمر اقترافاً لخطيئة لم تقم بها "كأن تُضبط في جريمة لم ترتكبها". ولكن إن سمحت لي بالاستدراك على هذا القول، فسأقول، إنّك فيلسوف، هذه الحقيقة الباردة تعني أنّ لديك القدرة على أن تتماهى مع هذه المعضلات دون أن تصيبك بأذى واضح. الفيلسوفُ، مثلهُ مثل البطل الملحمي، يمتلك القدرة على أن يحرر نفسه من ثقل قوى رهيبة آتية من دهاليز اللا وعي كالغزيرة والعادات المتوارثة، وهذا بفعل الإرادة الحرّة، لذا، هو لصيقُ وعالق بالوعي، دائمًا. على الفيلسوف أن يبذل جهدًا كبيرًا في أن يتجاوز رؤية الوجود الجاهزة وتصوّر العالم الناجز، ولكن بالمقابل، عليه أن لا يكون سجينًا للعقائد الفلسفية لئلا يحولها إلى فكرانية (أيديولوجيا) جامدة. ماذا يعني هذا؟ إنّه يعني ببساطة أن الفلسفةَ تبتدأ بالتساؤل، وتنتهي أخيرًا، بالشكوك. وأنتَ تعلم أن الشكوك ليست مرحلة مريحة للعقل ولكنها أفضل بكثير من احتواء يقينيات ثانية لكنها غير مبرهنة وغير حقيقيّة. يحاجج برتراند راسل دائمًا أنّ "الدوغمائية هي أكبر عائق عقلي لسعادة الإنسان" وعندما تتساءل، لماذا هذا القول، فهي لأنها تنشر الجهل والعنف. لو التفتنا إلى الوراء ونبشنا في صفحات التاريخ، لوجدنا أن معظم المذابح والحروب كانت بسبب عنفٍ تربّى في كنف فكرة، نكت وترعرعت دونما نقد صريح وحقيقي، هذا ما أعنيه وهو ما أحذرك منه. نحن بحاجة إلى رؤية أعمق للحياة وطريقة جديدة للتعامل مع العالم من حولنا، لذلك، وتجاوزًا لكلّ بداهة، إنه من بالغ الصعوبة أن تكون إنسانًا، عليك أن تتذكر هذا. ويجب أن تعلم أن العنفَ لا يبرر الحق ولا يوضح الصواب، إنه دائماً يفضح ما هو باطل وخاطئ.