عندما جعلت العولمة العالم مدينة صغيرة مليئة بالمتناقضات والتشابه بنفس الوقت، فشلت في الاحتفاظ ببراءة الإنسان، بل جعلته يظهر أحياناً بصورته الشريرة، البائسة، والمنكسرة بعض الشيء، فشلت في جعله يعيش بسلام بل مازال محتفظاً بالصراعات الدامية والمشكلات والخصومات مع الآخر، وأصبحت المواجهة الحالية بين مجتمعاتنا العربية والثقافات الأجنبية ذات العرض المغري للمواد الثقافية تكمن خطورتها بعدم استعدادنا لاحتواء هذا التدفق الهائل للمعلومات والثقافات الجاهزة للعرض على فاترينا الشعوب العربية، حيث إنه لا توجد أي منتجات ثقافية ومعلومات تساوي ما تُصدّره البلاد الأجنبية لنا، والواقع أن ما يصلنا من ثقافات أجنبية جذابة وباهرة إلا أنها تخلو من القوة في محتواها الداخلي والذي يتناسب مع ثقافتنا. ولكن هل الثقافة في خطر حقيقي؟ في أحد اللقاءات الثقافية اجتمعت مع عدد من النقاد من المغرب العربي والمهتمين بالشأن الثقافي، وكان جل حوارنا هو أننا نحتاج إلى إعادة تعريف للثقافة! ويشير عبدالرزاق معروف إلى أن بداية إطلاق مصطلح ثقافة عندما استخدمه إدوارد تايلر عالم الأنثروبولوجيا البريطاني في كتابه "الثقافة البدائية" والذي نشر العام 1871م. وكان هذا المصطلح يشير إلى الفلاح أو المهني الحر في فرنسا، بينما يرتبط المصطلح بجذره الديني في نشأته الألمانية، وفي ثلاثينات القرن العشرين حدده قاموس أكسفورد بأنه المفكر المستقل، وحدده القاموس الأميركي بأنه العارف المفكر، وهكذا توالت التسميات حتى استقرت على ما نعرفه اليوم، ولكن الأكيد أن الثقافة هي التي تعطي الإنسان قيمته، وتحدد نمط شخصيته، وتقاس بها تقدم المجتمعات وقوتها. هناك تساؤلات لطالما شاغلتني وهي: كيف نستطيع بناء قاعدة ثقافية صلبة؟ وهل الثقافة فعلاً تبني العلاقات الإنسانية أو تساعد في بنائها وتقودنا للاعتراف بالآخر؟ وهل الثقافة "القوة الناعمة" تستطيع أن تحارب التطرف؟ وما مصدر حيوية الثقافة؟ فمنذ بداية الحضارة العربية بدأت تتشكل ثنائية الماضي والحاضر، الطبع والصنعة، السعادة والشقاء، السلف والخلف، المرئي والمتخيل، الثابت والمتحول، لم نستطع أن نتجاوز هذه الثنائية ونتقدم إلى الأمام دون فكرة الأبيض والأسود، فكيف يمكن أن نحدد دور المثقف، فنحن نواجه حروباً ثقافية ونحن عُزل من أي مضادات لها، لذلك كيف سنعزز من ثقافتنا، ونحدد أدوار مثقفينا ونعطيهم فرصة للتفرغ الإبداعي، ونصنع ثقافة أصيلة قادرة على احتواء كل المتغيرات حولنا، وقادرة على إنتاج ثقافة خاصة بنا، فنحن نحتاج لثقافة حيوية، والحيوية تأتي من الابتكار وليس من المنافسة، فالمنافسة تحفز الابتكار، ونقص المنافسة يعرقل الابتكار، لذلك لابد من أن ننفض كل قديم لاستقبال الجديد دون الخوف من الخوض في المستقبل وتأمل الحاضر والتركيز على البناء من خلال مأسسة الثقافة، ووضع معايير جديدة تتناسب مع كل متغير حولنا، والرأفة بالمثقف الوحيد الذي يكابد الإبداع، ويكابد أدواراً أخرى كالناشر والمسوق وغيرهما، نحن لا نعاني من شح ثقافي ولكننا نعاني من التشتت الذي يضيع الجهود. فمتى تتضح رؤيتنا الثقافية؟