مع تتابع الأيام وتوالد القصائد.. والتجريب المستمر في كتابة البوح، بل حتى التباين في أعمار الأصدقاء وأجيالهم، تأكدت دائماً من أن الشعر غواية البوح الأولى التي تطفو على سطح التعبير.. لاسيما مع تفتّق القلوب الشابة للحب.. ويبدو أن ثمة يقينٍ يسكنني عن متلازمة الحب والشعر، فلا أرى الحب إلا حالة شعرية.. في المقابل لا أرى الشعر ذاته إلا حالة حب.. فعناصر هذا مكوّنات ذاك.. الحلم والخيال واللوعة والغيبوبة العقلية.. الشجن والشفافية، الفرح، الحزن، إنكار الذات.. كلها مجتمعة يمكننا توصيفها بحالة حب، وهي ذاتها مكونات اللحظة الشعرية.. فالحب حالة من الالتصاق مع الوجود بدعوى البحث فيه عن الآخر الذي تندغم فيه الذات، وتمتزج به الرؤيا، ويعانقه التذكّر، وتتقاذفه المرايا بين البصر والبصيرة، الاحتياج والاكتفاء، القيود والأحلام، فهو يسكن الشمس في الصباح، والمطر في تردّده، والقصيدة في شهقتها، والعصافير في انتفاضة ريشها للغيم، والمدينة بساكنيها، والأغنيات بزمنها، والعطر بعرق التذكّر، والهواتف بنغماتها، والظلال بمرافقتها، وهذه كلها أهم أدوات ذلك المختبر الجمالي الذي يقضي فيه الشاعر جلّ عمره الذي يحب.. ولهذا ظل الحب دائماً ضرورة شعرية لم يخرج عليها ذكر أو أنثى، تقليدي أو حداثي، رؤيوي أو انفعالي، فصيح أو محكي، راهبٌ أو مارق إنه القصيدة التي تبدأ به وتنتهي إليه..! ولهذا أيضا لايفاجئني الأصدقاء الأبناء الذين يتوسّمو نبلا منهم في إنصاتي لهم خيرًا، وفي قراءتي لتجاربهم ما يثريها بحسب قلوبهم النبيلة.. لايفاجئني هؤلاء الأبناء ذكوراً وإناثاً حين يبوحون لي بأسرار قلوبهم شعرًا، فيمررون دواخلهم من خلاله دون حذر من الأسلاك الشائكة المحيطة بهذا البوح أو ذاك، ربما ليقينهم أن هذا الحب الذي يسكنهم لا يتحمل وزره إلا كلام مغفور له كما هي حالنا مع الشعر منذ عصوره الأولى.. إن متلازمة الشعر والحب.. تاريخ طويل من الحكايات والأسماء، وقد تكيّف الشعر مع الحب في كل عصوره بشتى منحنياتها ومعايير الوجود فيها، ولو لم يكن للشعر إلا الحب لكفاه، ولو لم يكن للحب إلا الشعر بوحًا، لعمّ هذا الشعور العظيم الأرض!