بين تلك النقطة الحميمة الواقعة بين النثر بكل رزانته، والشعر بكل جموحه، يمضي فاروق يوسف في كتابه الجديد "غنج الأميرة النائمة" الصادر في الدوحة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث، فيقودنا الى عالمه الذي "يشرق العاشق" فيه "بالبوح، وتبتل شفتاه استفهاماً، وهو يكور اللحظات بين يديه، ويتسلى في تأثيث انتظاره بالتجليات". وتحت عنوان الكتاب، على غلافه الأول، تتفقدنا هذه العبارة "يود لو كان شعراً"، وفي ما يوده الكاتب وما احتواه الكتاب رحلة مقسمة الى ثلاثة اجزاء: الأول - ذهب الكلام، والثاني - أيقونة الروح، والثالث - وله الكتابة، وهذه ايضاً موزعة على نصوص، يحمل كل واحد منها اسماً، يشير اليه بكل بهائه وتدفقه، مثل "شهوة طاووس مبهم" الذي "يجر برخائه صمتاً خاملاً، ويخط بالبرق سطراً لا يكتب حتى يمحى" وكأن فاروق يوسف منذ وهلة كتابه الأولى، يفتح أعيننا على هذه المساحة من المحو، ولا يدعنا حتى ندخل ابواب نصوصه الفاتنة، ومعنا أمنيته المعذبة. حين يود ان يكون غنج اميرته شعراً، وفي المحو صنو الكتابة، تبدو عناية الكاتب بالبياض، ويظهر شقاؤه الملوّع، حارساً لفتنة الاختزال والترقيق، وفارداً ذراعيه في غابة ينحتها بصمته، الخارج من الكلمات والذاهب إليها، فالمحو هنا، يقترب كثيراً من لغة تصنع لنا وردة ونسياناً وذاكرة وحياة اخرى، تكمن في النص، وبراعة تفلتنا داخله، هي التي تجعلنا قادرين على اعادة المحو من اجل الكتابة، ومن ثم المحو ... وهكذا. وتكمن في هذه الافاضة، التي تطلقها نصوص تمتلك طاقة عالية على البوح، والابهام، قدرة الكاتب على اعادة الوهج للنص كفن كتابي بذاته، ذلك الذي خبا كمفهوم كان جرى تداوله في عالمنا العربي، وتفاعل مع منجزه وانتاجه بشكل كثيف قبيل سنوات ادباء كثر، واذا استعدنا ذاكرة الأدب العربي الكلاسيكي، فاننا سنرجع الى نصوص مرفوعة على البراعة، انجزت على يدي اساتذة عظام في النثر العربي، امثال: ابو حيّان التوحيدي والجاحظ وعبدالحميد الكاتب وابن المقفّع وابن حزم وغيرهم، وكانت حدود الاعتقاد السائدة حول ما انتجه هؤلاء وغيرهم من كتابة، لا تقف عند المفهوم الحديث والمعاصر لمعنى النص، لكن تلك النصوص مثل كتابة الاشارات الإلهية لأبي حيّان التوحيدي، لا يمكن اخراجها عن السياق المفهومي للمعنى الحديث للنص. وحين نرجع الى اللغة فان من معاني النص: الارتفاع، او ما لا يؤول من الكلام او الرفع، وهو في الاصطلاح الذي اقتضاه الاستخدام الشائع لنخبة من المبدعين العرب المعاصرين: ما امتلك طاقة الكتابة الأدبية والانفتاح على اشكال كثيرة من انواع الأدب في النثر والشعر، كالقصة والرواية والخاطرة والقصيدة والمسرحية، وحديثاً جداً دخل السيناريو التلفزيوني والسينمائي الأدبيان الى فسحة النص. اذاً النص هنا ما تجتمع فيه انواع ادبية عدة من دون ان تتوضح كمادة تفصح عن شكلها او نوعها وتندغم داخل بوتقة لتنتج نوعاً من الكتابة، يمتلك حساسية الشعر ونظام النثر. النص المفتوح كانت اكتشافات الأدب المعاصر شاسعة ومحرضة الى درجة سنحت بتفجير مساحات غير مطروحة بوضوح في الكتابة الأدبية، وكان النص بما حازه من تسمية ب"النص المفتوح" دلالة على سعته وتعدد الاصوات والأنواع الأدبية داخله، احد هذه الاكتشافات العظيمة، التي ما زالت تؤسس لفضاء كتابي جديد، يحمل في اعماقه، تذكيرنا دائماً بأن الابداع الانساني لا حدود لمساحة حريته ومكتشفاته. والسمات التي يتحلى بها "غنج الأميرة النائمة" هي سمات النص، المعتقة بخبرات اللغة العميقة، ذات البعد الرؤيوي المفتوح على عناصر الحكمة والسرد في انشغالاته الفنية، والشعر بضوئه الواضح والقص بانفلات صفاته الى حد علني احياناً، والحوار بما يمتلكه من قدرة على المسرحية والتداعي حتى البوح الجامح. من هنا، استقى "غنج الأميرة" اضاءاته الفائضة بالتوتر والإلماح والإثارة والرمز والتورية والحنكة، ومن هنا، يمكن مراقبة حال التنوع في خروج النص عن اطواره القارة، بمعنى انه لم يسكن في منطقة واحدة كالتداعي او البوح او النثر الشعري، بل تعامل مع كل هذه الفضاءات. ففي الحكمة، ماذا يحدث للغة من حيرة حين تصغي لهذه: "من ينام مفتوح العينين تفوته احلام كثيرة؟". ولنذهب الى مديات اكثر شساعة في هذا المنحى لنقرأ حنكة الحكمة وتوترها واتساق نظمها النظم للنثر ايضاً وقوة ايماءتها ومستويات تأويلها المتعددة: - "كي لا تفقد قدرتك على المشي وأنت تحلّق، تذكر الأرض دائماً". - "سم سقراط يطاردنا، حتى لو كنا بعفّة افلاطون". - "النور الذي يغمر اعماقنا ببحيراته، هو رصيدنا في ليل المعنى". ثم، لا تمضي صفحة من "غنج الأميرة" من دون ان تفسح للرؤيا مكاناً يتنهد بالشوق، ويلتهب بالرغبة، ويحترق بالانتظار، وفي مزيج سحري من المفردات الملتاعة، تصبح اللغة مقودة الى فضاء الشعر، ويصبح الشعر مرتعشاً على حواف السرد، وتظهر الأنثى في المفردة وفي الأنثى ذاتها، سياقاً بذاته، تحتاج قراءته الى مساحة بمفردها حتى تأخذ حقها كاملاً. وعلى رغم ان سمة الكتاب منذ قراءة عنوانه، تحضر باتجاه المرأة والحب، فان قدر الاشتياقات والحالات والغموض والتنهدات التي تجوب الصفحات، يفضي الى منطقة اخرى من الانهمام، غير تلك التي يفصح عنها الكاتب، بمباشرته الناعمة. ففي نص "غنج الأميرة النائمة" الذي سرق عنوان الكتاب، تتكشف اميرة اخرى غير تلك التي تظهر على سطح النص للقارئ ... انها اميرة المعنى بكل التباسها "وهي التي ترمق الكأس فيتشظى، هي التي تلمس العشبة فتندى بزيتها، هي التي تقود الصباح بسحر ناياتها الى الحقول، هي التي تطعن بوردتها المنيرة ليل المعنى، ولكن هل الأميرة نائمة في غنجها، ام الغنج هو الذي يقود خطاها إليّ؟". أليسَ نصاً آسراً؟ وعلى رغم الايحاء البالغ القوة، من ان المخاطب هي انثى، على رغم ذلك، إلا ان القراءة الممعنة، تقودنا الى "المنيرة ليل المعنى"، او "خطاها"، فمن هي هذه الغامضة؟ الأنثى ام اللغة؟ ام ان انفتاح النص على المعنى يعدد التأويلات وينوع اشكالها ويمنحها فيضاً كبيراً من الابهام؟ يحتفى غنج الأميرة - الكتاب، بهذه السحرية الفائضة والمشوقة، التي تتحلى بالابهام، وتترك الاسئلة معلقة لتحير من يقترب منها، وتلسعه بنار اشتياقات النص، المحفوفة بالغواية، والغواية التي تتبدى جلية هنا تتخفى بثياب الأنثى وتذهب جهة: الوله، بكل ما يحمله من لوعة وعذابات وانتظار وافتراس، فتبدو مهيمنة، وكأنها تحضر لتقول ذاتها داخل الجمل والمفردات، كشأن آخر، انشغل النص به، لكن من دون ان يكون للافصاح عنه بمباشرة فجة مكان في النص، وأعني بالغواية، تلك التي تُلمح بين السطور ولا ترى ... غواية المرأة بعطرها السري وزهورها الخفية ورائحتها المختبئة في قارورة حلمية، وغواية الكتابة، بفتنتها وخلاصها وأخطائها وتداعياتها، الكتابة التي جذبت هذه النصوص الى مساحات رحبة من الغنائية الشفيفة العالية بتوقها للجمال والحاضرة فيه. ان ما يقدمه هذا الكتاب من نصوص، يحمل في قلبه حمى التجربة وأرقها وسهدها، وقدرتها على التجلي في الكتابة، والارتقاء بالمعنى، ليصل حدود التأمل والوشوشة كما الهواء النقي، رهيفاً وشقياً بعذوبته، الى نهر اللغة ومجرة الذات. يقين الجمال هكذا، ومن دون مقدمات باذخة: "الجمال يقين والقبح شك، وما بين الاثنين تمتد مسافة استفهام" تأخذنا نصوص غنج الأميرة الى مكائدها اللغوية، وإلى عالم مملوء بالشفافية والانعتاق، عالم يتغلب السحر فيه على الواقع، ويرقد الرمز على بيضة المعنى، ويذهب التأويل الى شجرة الابهام، ويستقر الغموض في دار الوضوح، انها عالم تتوحد في اجوائه الإحالات الوجودية، وتندغم لتشكل كل هذا التوق وكل هذا البحث في الكتابة والحب والذات والمعنى والضوء والحياة. وأمام هذه الكتابة الفارهة بشفافيتها، البارعة في اطلاق مكامن البوح من اعماقها، الآسرة منذ الدفقة الأولى، التي لا تنتهي منها إلا حين تصل الصفحة الأخيرة، ليمسسنا العذاب من جراء وقوعها في هذه النقطة، ولا يكون الخروج من هذا النص سليماً، فعبره ينسج فاروق يوسف مكائده ويحرك مؤامراته اللغوية ويتحرك بحرية غير مشروطة إلا بالهواء والرياح ودقات القلب، كل ذلك يحدث من دون ان يسمح لنا بالخروج من غبطة اختيالاته الجميلة معافى. فالنص - على ما يود فاروق يوسف - هو مكابدة، وهو يرتفع بالنثر الى مصاف الشعر، وبالشعر الى مصاف النثر، ف"الكتابة تأتي دائماً من حيث لا تقيم" والعاشق هو الشاعر الوحيد الذي بإمكانه ان يعرف الشعر" و"أقولك فأصمت ... أصمتك فأقول" لذا، لا عجب ان "يود لو كان شعراً" تتجول في الكتاب حتى نهايته، فهذه التي تحيلنا، على رغم سحر اشاريتها وغموضها لتوق حار باتجاه الشعر، ايضاً تجذبنا الى تحديقة غامضة تومئ ولا تقول، وتحمل في طياتها قوة السرد ورهافة الشعر ورقة الكتابة وتحليق الطيور.