عدتُ الآن إلى تورينتو، المدينة الأكثر مللًا في أمريكا الشمالية. دعني، في البداية، أخبرك أنني لاحظت أنّ سكان هذه المدينة يفضلون كسب المال والعيش هنا على الغربة، وهم بهذا يصارعون مللًا ضاغطًا وشديدًا يوميّا. أرى أنّ حياتهم هنا تتأرجح كالبندول، بين السأم وانعدام المعنى. وعلى الرغم من أنني عدت الآن من المشرق، إلا إنّه قد دهمني شوق كبير إلى الألوان الزاهية والروائح المختلفة التي تجود بها آسيا، قارتي. رسالتكَ، أيّها الفيلسوف الصاعد، خفّفت عليّ هذا الشعور من الاشتياق، وساعدتني على تخطّي الملل، كما أني أشعر نحوك بامتنان دائم؛ لأنك تطلعني على آخر أفكارك. كنتُ سعيدًا للغاية عندما رأيت خطّ يدك مرّة أخرى، ولقد بدا لي جميلًا، وقد وصلت رسالتك متأخرة قليلًا عن موعدها، لكنني تسلمت الكتاب الذي بعثته لي في وقته خاليًا من أي تلف أو عطب. آمل ألا أبدو لك ناكرًا للمعروف؛ لأنني لم أشكرك مباشرةً على الكتاب، إنّ سعادتي بهما جميعًا، الكتابُ والرسالة، كانت كبيرة للغاية، ولكنّ الرسالة على نحو خاصّ بعثت في نفسي سرورا عميقا؛ لأني أجده أمرا استثنائيا أن يتكاتب الناس عبر الورق المطبوع بالشمع الأحمر في عصر الإنترنت والاتصالات الحديثة. كم هو مؤسف أن يخسر الناس هذه العادة، أعني كتابة الرسائل وإرسالها إلى أحدهم ليقرأها، ولكن لا تهتم لهذا الآن، فلدينا بعض الأمور المهمّة لنتحدث حولها. كانت تفوح من رسالتك رائحة الرومانسيّة، إن عبقها يضوّع في المكان، مرحى لهذا! لكنني أريد معرفة مزيد عن حقيقة مشاعرك لهذه الفتاة التي قابلتها في درس الفلسفة. أأنت تحبّها فعلا، أم أنّك تعتقد أنها مقبولة لديك وتشعر خلال وجودها بالراحة؟ إن كنتَ تبحث عن نصيحةٍ من رجل مسنّ مثلي، خبر خيبات عديدة في الحبّ ومرارات عميقة من النساء، فدعني أخبرك أن تكون شديد الحذر في تصور من تحبّ على أنها امرأة مثاليّة، إياك وهذا الأمر، تمسّك بهذه النصيحة الأهمّ، وأنت معها تغرس سياجًا طويلة حول نفسك تحصنك من سهام الخيبات والمرارة الدامية. إنّ قولك هذا، أعني ذكرك علاقتك، يذكرني بما قاله فرويد في مقالة له بعنوان "علم النفس وتحليل الغرور"، ومن خلال هذه المقالة يقارن فرويد بين الإنسان المخدّر تحت تأثير الحب، والإنسان تحت تأثير التنويم المغناطيسي. ما توصّل إليه فرويد، علميّا، أنّ الفارق بينهما ضئيل جدًا، عنيتُ ذلك الواقع تحت تأثير الحبّ، وآخرَ تحت تأثير التنويم المغناطيسي، بل إنّ الفرق بينهما خطوة واحدة قصيرة فقط إن أردت الدقة. كلاهما تظهر عليه مسحة من وقار وهدوء، يُطبع على الإذعان والالتزام، وكلاهما تضمر لديه حاسّة النقد، المحبّ تجاه من يحبه والمنوّم مغناطيسيّا تجاه من قام بعملية التنويم. علينا أن نقرّ بأنك عندما تحب فأنت تخوض تجربة شديدة الخطورة، ولكنك عندما تجعل من المحبوب محبوبا مثاليّا، فأنت بذلك تتخبط في لجج من الوهم الذي لا صحة له. إنني أرى أن الحبّ، في معناه الأقصى، تجرية روحيّة بامتياز، يخلّصنا من شعور الأنانيّة، ويرفعنا من وحل الغرور، لكنّ المؤسف في الأمر أن الزواج لا يفعل معنا الأمر ذاته، بل يحولنا إلى كائنات منيعة ضد الدهشة بفعل الروتين اليوميّ، يحدث هذا لكثير من الناس، لكن القليل منهم من ينقل تجربة الحب للزواج بالتوقان واللهفة نفسيهما. ولذلك، هل تتذكر ذلك المقطع من مسرحية شكسبير "عطيل" عندما صرخ البطل" آه .. الزواج ما ألعنه!"؟ أعتقد أنه يقصد الأمر ذاته الذي أخبرتك به قبل قليل. لذلك، لا أرى من واجبات الزواج أن يكفل لنا السعادة، لكن ماذا عن الحبّ؟ هل يؤمّن لنا السعادة؟ حسنًا، إن الجواب عن هذا يعتمد على تعريفنا للسعادة وللحب. وفقًا لغاندي، فإن السعادة هي أن ما نفكر فيه وما نقوله وما نعمله يكون في حالة كاملة من الانسجام معا. السعادة إذن تحصيل هذا التناغم مع نفسك والعالم. أما بالنسبة إلى الحب، فالأمر مشتبك ومعقد؛ لأن هناك طرقا عديدة في الحب، هناك الحب الذي تغلب فيه عاطفة التملّك لشخص أو شيء ما، العجيب في الأمر أن الحب النشواني وحده هو الذي يتصف بهذا، كأن لسان حاله يقول: "أنا أحبك، إذن، أنت ملكي". الفلسفة، وهذا أهم ما أريد قوله لك، هي حرفيّا، إحدى صور الحب العالية، وهي حبّ الحكمة، ولكن هل هي مشابهة لحب الرياضة أو حب الصحة أو غيرهما؟ قطعًا لا، حب الحكمة هو ذلك الحب المهوّس عن ذاك الشيء الذي كلما اقتربت منه، فرّ منك وابتعد، فعليك بهذا الحبّ. أوصيك به، هو الأبقى والأخلد.