لو أن نجيب محفوظ حي يرزق لاحتفلنا بذكرى مولده المئة وخمس سنوات، ولا أدري هل يعني هذا الرقم شيئاً لقرائه وأسرته وجيرانه وأحبته وسكّان الحي الذي كان يقطن فيه، وروّاد المقهى الذي كان يجلس فيه حيث لم يبارح طيفه المكان؟ سيسأل البعض ماذا يعني ذلك؟ وسأجيب بسؤال: ماذا يعني للطفل ادّخار قطع نقدية صغيرة في حصّالته؟ أو ماذا يعني لشخص ناضج ادخار مبلغ صغير كل شهر من مدخوله للأيام الحالكة؟ أو ماذا يعني للشخص حين يرى صديقاً قديماً فتنفرج أساريره على بهجة عظيمة؟ يعانقه ويسترجع ما كان بينهما من ذكريات. دون أن نعي جيداً مقصد الكلام، نعرف أن الطفل يبتهج حين يفتح حصالته فيجد فيها مبلغاً جيداً، يناسب تماماً شيئاً يريد اقتناءه وصعب عليه فعل ذلك قبلها. يفرح النّاضج بنفس الطريقة، وكأنّه لم يغادر طفولته أبداً، حين تنقذه مدّخراته من مصيبة مفاجئة أو مشكلة عويصة الحل من دون توفر ذلك المبلغ. لكن الفرح العارم، هو فرح الصديق العاثر على صديقه بعد غياب، وفي حوزتهما معاً كمّ من الذكريات الجميلة، التي تقاسماها معاً. الصوت العميق في أذهاننا، يصفّق للذاكرة التي تحافظ على تاريخ طويل من المثابرة، والاجتهاد، وتحديد الأهداف، وكل القيم الجميلة المرتبطة بالوفاء والمحبة المجانية الخالية من المصالح، وهذا هو السّر.. السرّ الذي لا تعرفونه إلى هذه اللحظة، هو الحكاية الجميلة المرتبطة بكل الأحداث البسيطة المعاشة، إنّها الذاكرة التي تحثنا على الذهاب قدماً في أهدافنا، ومن دون تلك الذاكرة، نحن لا شيء، لن نعرف من نحن، ولا ماذا نفعل؟ ولا ماذا نريد؟ لن نعرف لا ما يمتعنا ولا ما يؤلمنا؟ سنصبح كائنات باهتة مثل مرضى الزهايمر نثير الشفقة فقط دون إضافات أخرى. نجيب محفوظ الذي لولا تهجم سيد قطب عليه، وتأجيج الكراهية ضده من طرف جماعة الإخوان لعاش خارج الذاكرة الثقافية حتى في قلب مدينة زاخرة مثل القاهرة، لولا ذلك العداء الإخواني لما بلغ منصّة نوبل، ولعلّ هذا القمع لفت إليه الأنظار، لكن كل تلك الهالة العالمية حوله لم يستفد منها بلده، حتى إنه كُرِّم بعد نوبل مباشرة بقلادة النيل العظمى لإخبار العالم أن الرجل "محترم بما يكفي في بلاده" فإذا بابنته تكشف بعد تسع وعشرين سنة من الصمت أن الميدالية مزيفة! يا للهول.. كل هذا الصّمت ليعود الرّجل إلى الواجهة، مصرًّا أن يُبقي ذاكرة المتن الثقافي منتعشة، ذلك أن هذه الذاكرة، وحدها تبقي الأمم نابضة بالحياة، لكن ليتها تبقى نابضة بغير هذه الخيبات.