انقضت صفحة سوداء في تاريخ الإرهاب بصدور أحكام القضاء على مرتكبي جريمة الاعتداء على نجيب محفوظ، ولكن لم تنقض توابع الجريمة، فقد ظل نجيب محفوظ عاجزاً عن الكتابة، بعد أن تأثرت أعصاب اليد بالطعنة، ولم تنته الصدمة النفسية التي ظلت قائمة والتي تولاها الدكتور يحيى الرخاوي الذي أشرف على استكمال العلاج النفسي للكاتب الذي جاوز الثمانين، وروّعته إلى الأعماق محاولة الاغتيال التي ما كان يتصور إمكان حدوثها. واستمر العلاج الطبيعي الطويل كي يعاود نجيب محفوظ الإمساك بالقلم والعودة إلى الكتابة. وكان لا بد من إعادة التأهيل الذي بدا أشبه بتعليم كتابة الأحرف من جديد. وقد حصل متحف نجيب محفوظ - في طور الإنشاء - على خمس كراسات أهداها إليه الدكتور يحيى الرخاوي، تضم محاولات إعادة التأهيل للكتابة والتدريب الجديد عليها. وأي تصفح لها ينبئ عن المعاناة التي خفف منها إصرار نجيب محفوظ على معاودة الكتابة تحت إشراف الدكتور يحيى الرخاوي. وليس من حقي الحديث عنها، فأكثر ما فيها يدخل في باب الخصوصيات التي لا حق لي في الكلام عنها، أو التصريح ببعضها، لكني أعلم أن الدكتور يحيى الرخاوي في سبيله إلى إعداد دراسة سيكولوجية عنها. وما لفت انتباهي في الكراسات، وما يمكن التصريح به، هو هذا الروح العنيد الذي لم يكف عن مقاومة عجز الأصابع، وقهر الخلل الذي أصاب الأعصاب التي تحركها. وتبدأ كل محاولة من المحاولات، الممتدة عبر الكراسات الخمس، متفاوتة الأحجام، بالبسملة، ويتكرر اسما ابنتي نجيب محفوظ - أم كلثوم وفاطمة - كثيراً بعد البسملة. ويكشف تتابع الصفحات عن معاناة الأصابع في الكتابة: الخطوط مرتبكة، والأحرف غير مستوية الملامح، وكل حرف مهتزٌّ في تكوينه، متقطع في علاقته بغيره، لكن شيئاً فشيئاً، ومع الإصرار العنيد، تعتدل ملامح الحروف نوعاً، لكن من دون أن يفارقها الارتباك الذي يجعل قراءة الصفحات شبه مستحيلة إلا على من تابعها بالتقويم والملاحظات النفسية المعالجة، وهو الدكتور يحيى الرخاوي الذي تنازل عن هذا الكنز لمتحف نجيب محفوظ، ولا أظن أنه يمكن السماح بالاطلاع عليه إلا للمختصين، وذلك بعد تصويره على ميكروفيلم. وأعترف أنني قاومت رغبتي في قراءة الصفحات، خصوصاً بعد أن لمحت في بعضها آراء لا حدّ لجسارتها. ولكنى وعدت صديقي يحيى الرخاوي بالصمت، وذلك بعد أن أخبرني أنه يحتفظ بصورة من الكراسات، وأنه في سبيله إلى إعداد دراسة عنها، وفاء بحق صديقه: نجيب محفوظ. ولم تتوقف التوابع على اختلال أعصاب اليد التي تعودت الإمساك بالقلم وكتابة الروائع الإبداعية لنصف قرن، بل جاوزتها إلى الإسراف في الحراسة الأمنية التي أحالت لقاءات محفوظ بمريديه إلى ما يشبه السجن. وتوقف الرجل عن الذهاب إلى ندواته الأسبوعية التي كانت مفتوحة لكل من يريد، وتحولت الندوات إلى لقاءات مقصورة على الخاصة من محبيه، وفي أماكن مغلقة بحكم التعليمات الأمنية وأصبحت أماكنها غير معلنة للجميع، وظلت مسيَّجة بحراسة مشددة. وتغيرت كيفية لقاءاتنا بنجيب محفوظ، نحن أحبابه وعشّاق أدبه، وكنت أعرف - بفضل جمال الغيطاني ابنه الروحي - أن أيامه بعد الجريمة توزعت على جلسات مغلقة، وأماكن متعددة، يلتقي فيها بالمجموعات المختلفة التي ظل يسعده لقاؤها. وقد شهدت هذه الجلسات قدرة نجيب محفوظ العجيبة على التسامح الذي يفسح به صدره حتى للأخوة الأعداء، من دون أن يضيق بأحد أو يغلق أبواب محبته وأبوته وأستاذيته في وجه أحد، كما تعود في سنوات ما قبل الجريمة. وتوزعت أيام الأسبوع بين مجموعات مختلفة، يلقى كل مجموعة منها في يوم معلوم مختلف من أيام الأسبوع، وفي مكان مختلف، بحسب تعليمات الأجهزة الأمنية. وكان يوم الأحد مخصصاً لقاعة مغلقة في فندق"شبرد"تضم المجموعة الكبرى من مريديه على اختلاف أنواعهم. ويوم الاثنين للقاء مجموعة موازية في قاعة مغلقة في فندق"موفينبيك"بالقرب من المطار. أما يوم الثلثاء فكان مخصصاً لقاعة مغلقة في مركب"فرح بوت"على النيل ما بين كوبري جسر الجيزة وكوبري الجامعة. وهو يوم المجموعة التي لا أزال آلف أفرادها - جمال الغيطاني ويوسف القعيد وعبدالرحمن الأبنودي وفتحي هاشم وحافظ عزيز وغيرهم من الأصدقاء الذين كنت ألتقي وإياهم، أحياناً، في حضرة نجيب محفوظ. ولا أزال أضع، في الصدارة من بيتي، الصور التي تجمعني ونجيب محفوظ في هذه القاعة. وكنت، ولا أزال أعجب، مثل المتحلقين حوله من الأقرب إليه مني، بذاكرته الاستثنائية، وبقدرته على الاسترجاع الطوبوغرافي، والتذكر الموازي للأحداث والشخصيات. أما يوم الأربعاء، فكان لفندق"سوفيتيل"المعادي، وقد صحبني يوسف القعيد للقاء نجيب محفوظ، في إحدى القاعات السرية، في هذا الفندق البعيد عن وسط المدينة. وكانت المرة الأخيرة التي أجلس إلى نجيب محفوظ فيها، وأستمتع بپ"قفشاته"وخفة دمه وروحه المرحة التي لا تفارقها التعليقات الساخرة التي تأتي في موضعها تماماً. أما يوم الخميس فكان مخصصاً لمجموعة موازية في مطعم"فلفلة"بمنطقة"المنيل"على نيل القاهرة، في الضفة المقابلة للضفة التي يقع عليها مركب"فرح بوت". أما يوم الجمعة فكان اللقاء في منزل الدكتور يحيى الرخاوي في منطقة المعادي. ويأتي يوم السبت مخصصاً للأسرة، الزوجة والابنتين، ولم يكن يحضره سوى محمد سلماوي الذي كان نجيه الذي يكتب أحاديثه في جريدة"الأهرام"القاهرية، وألقى كلمته في الاحتفال بجائزة نوبل، ولا تزال أسرة محفوظ الصغيرة تعده واحداً منها. وظلت هذه الأماكن المغلقة منفذ نجيب محفوظ إلى العالم حوله، يقرأ له الجرائد الحاج محمد صبري وكان سكرتير يوسف السباعي قبل اغتياله ويكتب ما يمليه عليه نجيب محفوظ، خصوصاً في عامه الأخير، الجزء الأخير لمجموعة"أحلام فترة النقاهة". وكانت يدا محفوظ وهنت مع عينيه التي لم يعد يرى بها الأحرف، فتوقف عن القراءة التي لم يعد قادراً عليها، وأصبحت أذناه نافذته إلى العالم بواسطة المحيطين به. وبعد أن كان الحاج صبري يفرغ من قراءة الجرائد، يتبادل المريدون الجلوس إلى جواره، قرب أذنه، في صوت مرتفع كأنه الصياح، نقل الأخبار العالمية والمحلية، في مجالات السياسة والاجتماع والاقتصاد والآداب والفنون، فأصبحوا مصدره الأوحد في المعرفة، ووسيلته في متابعة الأجيال والأعمال الإبداعية الجديدة لشباب وشابات الإبداع الواعدين. وكان يوسف القعيد، ولا يزال، مختصاً بالأنباء وبالوقائع المحلية التي لا تزال تجعل منه وكالة أنباء متحركة. أما جمال الغيطاني فكان يتبادل والأبنودي القرب من أذني محفوظ، ومخاطبته عبر الأذن الواهنة، على رغم السماعة المساعدة التي ضعفت بدورها، وذلك كي يوصلا إليه ما يقوله الجالسون بعيداً عنه، خصوصاً من الضيوف أو القادمين العرب والأجانب، خصوصاً بعد أن تحولت قاعة"فرح بوت"إلى مزار عالمي. وأعتقد بأن هذه الجلسات كانت تدعم في محفوظ رغبة الحياة، وتعينه على قهر الشعور باقتراب الموت الذي ظل يقاومه إلى أن اضطر، مرغماً، إلى الانقطاع عن اللقاء بأحبائه، ففقد رغبة الحياة والقدرة على مقاومة الموت، وأخذ في الاستسلام للوهن الداخلي الذي اقترن ببقائه في منزله الذي صار سجناً له. وكانت تلك بداية النهاية لمن لم يكن يطيق البقاء في المنزل إلا للكتابة. وتتابعت أحداث النهاية التي أدّت إلى وفاته في مستشفي الشرطة الذي سبق أن أنقذه من محاولة الاغتيال، ولكن لم يفلح الأطباء في إنقاذه هذه المرة، فقد وهن الجسد تماماً، وضعفت المقاومة ورغبة الاستمرار في حياة هي الموت أو أشبه. وأعترف أن الحزن - كالأسى - لم يكن يفارقني كل مرة لقيت فيها نجيب محفوظ في إحدى هذه القاعات المغلقة المحاطة برجال الأمن كأنها غرف سجن وليست أماكن للقاء أكبر أديب عربي، والأب الروحي للرواية العربية الحديثة التي أوصلها إلى العالمية. صحيح أن خفة ظل بعض الحضور، وسخرية نجيب محفوظ وتعليقاته التي تنتزع الضحكة من الصدر، كانت تخفف من وطأة إحساسي بأننا أصبحنا مجبرين على الاختباء في قاعات سرية محاطة بالأمن، كي نلقى الرجل الذي فتح آفاق الإبداع، ولم يعرف معنى الانغلاق، ولذلك ظل إبداعه فضاء مفتوحاً على الزمان والمكان، لا يعرف أبطاله الغرف المغلقة كالزنازين، حتى الذين كان يحكم عليهم بالسجن - سعيد مهران في"اللص والكلاب"مثلاً - لم نره إلا بعد أن خرج من السجن، وبدأ رحلته في الانتقام الذي أصاب الأبرياء قبل المذنبين. حتى"ميرامار"وپ"ثرثرة فوق النيل": لم تنغلق العوامة في الثانية بما يقطع ما بينها والعالم الخارجي، بل كانت موصولة به، احتجاجاً عليه ورفضاً لقوانينه إلى أن ينتهي بقاء عالمها المغلق مع حادثة السيارة التي اغتالت امرأة بريئة في الطريق المفتوح. ولم ينغلق بنسيون"ميرامار"على رواده، في الأولى، بل ظل مفتوحاً على العالم المحيط الذي يتأثر به ويؤثر فيه، فلا نبقى فيه إلا لنخرج منه إلى البراح المفتوح الذي كان انعتاقاً من زنزانات التعذيب الوحشي. أما أن يحكم على نجيب محفوظ بالجلوس في غرف مغلقة، حتى لو كان محاطاً بأحبائه، فقد ظل أمراً يثير حزني إلى اللحظة الأخيرة، ويزيد من سخطي على جماعات الإرهاب الديني، وعلى عوامل الفساد السياسي والتخلف الاجتماعي والانهيار الاقتصادي والتراجع الثقافي التي أوصلت جماعات الإرهاب الديني إلى ما وصلت إليه من سطوة دموية، قضت على حياة مفكرين مثل فرج فودة المصري، وعبدالقادر علولة الجزائري وغيرهما في قائمة مؤلمة في دلالاتها. وكادت هذه السطوة تقضي على حياة نجيب محفوظ، لولا أن حفظه الله، لكن ظلت نتائج الجريمة باقية أراها في الغرف والقاعات التي كانت تنغلق علينا كلما لقيناه. ولم تقتصر توابع الجريمة على هذا الحد، فقد توقف نجيب محفوظ المشاء عن رياضته المعتادة في المشي اليومي، في رحلة يلقى فيها البسطاء، ويبادلهم المحبة والتحية، وانتهت هذه الرياضة إلى الأبد، وحُرمت عينا محفوظ من متابعة الناس في الطرقات وملاحظتهم، والاستماع إلى أحاديثهم. وفُرِض عليه التوقف عن رياضته التي كان يبدأها في موعد محدد وينهيها في موعد محدد، في انضباطه الحياتي الصارم، فقد كان ممن"تضبط عليهم الساعة"كما وصفته زوجته - بحق - في تحقيقات النيابة في محاولة اغتياله. يخرج من مسكنه في الخامسة إلا عشر دقائق، وفي الخامسة تماماً، يفتح باب السيارة التي تقله إلى ندوة كازينو قصر النيل في الموعد نفسه الذي لا يتقدم ولا يتأخر، حتى السجائر: لاحظت أنه لا يدخن سيجارة إلا في وقت محدد، كان مرة واحدة كل ساعة بالتمام والكمال في البداية، وأصبح واحدة فحسب في كل جلسة، مع فنجان من القهوة، إن لم تخنِ الذاكرة. وانتهى زمن المقاهي التي لعبت دوراً أساسياً في حياة محفوظ الذي ظل تردده عليها طقساً بالغ الأهمية في مسيرته الإبداعية، منذ بدايتها التي اقترنت بمقهى"قشتمر"- في حي الظاهر - الذي كتب رواية بعنوانه، وتحدث فيه عن صداقات استمرت أكثر من نصف قرن. وقد تحدث جمال الغيطاني تفصيلاً عن الأماكن الحميمة التي تعلق بها نجيب محفوظ، في كتابه المشوّق:"المجالس المحفوظية"الذي أصدرته"دار الشروق"هذا العام. ويذكر الغيطاني مقهى"عرابي"في العباسية، حيث ولدت رواية الكرنك. وهناك ندوة مقهى"الأوبرا"التي ابتدأت سنة 1943، وكان يحضرها عادل كامل، واستمرت كل جمعة إلى عام 1962 عندما تدخل رجال الأمن ووضعوا حداً لها. وقبل ذلك، مقهى"الفيشاوي"الذي عرفه محفوظ في أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات من القرن الماضي، وظل زائراً له سنوات عدة. وهناك مقهى"أحمد عبده"الذي كان موجوداً حتى ثلاثينات القرن الماضي، واعتاد أبطال الثلاثية الذهاب إليه. وأضيف مقهى"ريش"في شارع طلعت بجوار ميدان طلعت حرب، حيث تحلق جيل الستينات كله حول محفوظ في المقهى الذي كان منطلق أجيال جديدة من الكتاب، قبل أن ينقله الانفتاح الساداتي من حال إلى حال. ويأتي مقهى"إيزافيتش"بعد ذلك، في ميدان التحرير، حيث أجرى رجاء النقاش حواراته المطولة مع محفوظ التي نشرها في كتاب بالغ الأهمية عنه، نشره مركز الأهرام للترجمة والنشر سنة 1998 بالقاهرة. وكانت جلسات محفوظ مفتوحة لمن يريد أن ينضم إليها، خصوصاً في الأوبرا وريش وقصر النيل، لا تنغلق عليه ولا على من حوله. فضاؤها المفتوح للجميع كحواراتها التي تنطلق في حرية، يدعمها التكوين الليبرالي لمحفوظ الوفدي القديم. لكن كل هذا الفضاء المفتوح انغلق على محفوظ ومريديه، وتحول إلى قاعات مغلقة يحوطها حرس أمني قلق، متوتر، مؤرق بحماية الرمز الأدبي الكبير ومن حوله. وهو وضع مقبض يتسلل إلى النفوس فيصيبها بالحسرة، خصوصاً نفوس الذين تعودوا على لقاء الفضاءات المفتوحة. ولا أزال أذكر المرة الأخيرة التي لقيت محفوظ فيها، ولم أحتمل الشعور بالحبس، ولا تدهور صحته الذي كان قد وصل إلى الذروة، فأصبح الرجل شبه عاجز عن السمع والبصر، فلم أستطع البقاء طويلاً، واستأذنته في الانصراف، وتركته يملؤني الحزن والاكتئاب بسبب توابع الجريمة التي حمل جسده آثارها إلى أن رحل عنا، تاركاً لنا العالم الذي أفسده علينا شياطين الإرهاب الكبار والصغار.