في الحادي عشر من كانون الأول ديسمبر الماضي أكمل نجيب محفوظ العام الثاني بعد التسعين، وبدأ عامه الثالث والتسعين. لم يبق أمام محفوظ سوى سبع سنوات فقط - أمد الله في عمره - ويصبح شاهد القرن ورجل القرن. وإن كان هذا القرن هو العشرين وليس الحادي والعشرين الذي يشعر أنه ضيف عليه أكثر من كونه أحد أبنائه. والاحتفال بعيد ميلاده بالنسبة الى الدوائر القريبة منه وأسرته من الأمور الجديدة التي لم يكن لها وجود في حياة أسرته. لذلك هو يستغرب فكرة الاحتفال وإن كان لا يرفضها. أهم ما جرى له خلال هذا الاحتفال أنه نشر في مجلة "نص الدنيا" الحلم الرقم مئة من أحلام فترة "النقاهة". وهذا هو عنوانها ويتكلم على المفارقة في علاقته بالأحلام. عندما أقول له لديك عمل سابق هو: رأيته فيما يرى النائم القاهرة 1977، والآن تعود إلى دنيا الأحلام من جديد، يقول لي: إن المفارقة تكمن أن الأحلام القديمة كانت تأليفاً، كنت أؤلفها، في حين أن الأحلام الأخيرة أشاهدها فعلاً. يحكي قصته مع الأحلام. أنام فأحلم. أغفو وقت الظهر فأحلم. أكون بمفردي فأحلم. وأحاول تدوين ما حلمته. لا أكتب الحلم كله. ولكن شيئاً منه. يقول فرويد ان النوم الصحيح هو ما يكون من دون أحلام، فإذا حلم المرء كان هذا دليلاً على أن صاحب الرؤيا لا يزال يتأثر بالمؤثرات الخارجية والداخلية، غير أن هذه التأثيرات تتحول إلى صور عجيبة في الحلم فلا توقظ النائم، لذلك كان الحلم تحقيقاً لرغبة لا يمكن تحقيقها في الواقع، وهو لهذا السبب "حارس النوم" ويقول الدكتور أحمد فؤاد الأهواني في كتابه "النسيان": والأغلب أن الحلم سريع النسيان، ولذلك نصح العلماء الذين يدرسون الأحلام، أن يحتفظ المرء بورق وقلم بجانب السرير، حتى إذا استيقظ دوّنها عقب الرؤية مباشرة، قبل أن تغيب في مجاهل النسيان، وتمتاز الأحلام بأمرين: خروجها عن منطق العقل في تركيب الصور، وعدم تقيدها بالزمان، اننا نهرب في الأحلام حيث نكون أحراراً، لن نتقيد بترتيب الزمان، وهذا كله اختلال لا ترتضيه الذاكرة، ولا حاجة بعد ذلك إلى التذكر أصلاً، وهذا هو سر نسيان الأحلام عقب وقوعها. نعود إلى نجيب محفوظ وأحلامه. اسأله: لماذا تبدو العلاقات في هذه الأحلام ناقصة؟ لماذا تخرب الجسور التي من المفروض أن تربط بين الناس؟ قصص غير مكتملة. أحلام داخل الأحلام ولكنها مستحيلة التحقيق. يقول لي لأنها جزء من كل. جزء صغير من حلم قد يطول. أحاول تدوينها بسرعة لئلا تتوه التفاصيل من الذاكرة. وعندما خذلتني يدي اليمنى أخيراً. "هذه اليد كانت مصابة وتخضع لعلاج طبيعي منذ حدث الاعتداء على نجيب محفوظ الذي وقع من تسع سنوات مضت. قال له الأطباء ان العلاج قد يستغرق وقتاً، وأن الشفاء بطيء". لذلك نصحه أصدقاؤه بأن يملي بعض هذه الأحلام. النسيان عدو الذاكرة. وقد بدأ أخيراً فقط يملي بعض هذه الأحلام على محمد صبري الذي يقرأ له الصحف صباحاً. وقبل عملية الإملاء فإنه يقوم بحفظ الحلم حتى يمليه بالصورة الفنية التي كان الحلم بها عليه في ذهنه. وكما قال تولستوي في مذكراته عن جدلية الخيال الإنساني، فإن الإنسان كلما تقدم في العمر، فإن الخيال يعود إلى منابع الطفولة والصبا والشباب. ولذلك فإننا نجد في هذه الأحلام عوالم التكية والخان والحدائق والأنهار والوصول إلى لحظة ومكان التقاء زرقة الماء بزرقة النهر. نجيب محفوظ الذي كتب الرواية التاريخية والرواية المعاصرة والقصة القصيرة والمسرحية والمقال الطويل والمقال القصير واليوميات والسيناريو والحوار، هو الذي ابتدع هذه الكتابة الجديدة كتابة الأحلام، وتكتب سناء البيسي رئيسة تحرير مجلة "نص الدنيا" مقدمة الحلم المئة: تدعو النقاد إلى دراسة هذا الشكل الأدبي الذي ابتدعه نجيب محفوظ على غير مثال سابق. وكان نجيب محفوظ بدأ هذا الشكل من الكتابة بعد شفائه من حادث العدوان عليه الذي وقع في عام 1994. في الحلم 98 يرى عبر الحديقة "مالكة فؤاده وهي توزع الشيكولاتة على المحبين" يصل حتى مدخل الحديقة، ولا يعثر للمحبوبة على أثر فيهتف بحدة لاعناً الحب. وتحين منه التفاتة إلى الخارج فيرى الحبيبة في الموضع الذي كان فيه وهي تتأبط ذراع شاب بدا انه خطيبها، وينهي الحلم الذي يقع في عشرة أسطر بخط نجيب محفوظ هكذا: وهممت بالرجوع من حيث أتيت، ولكن أقعدني الإرهاق لطول المسافة وفوات الفرصة. أما الحلم الرقم مئة فيدور في محكمة. قاض على المنصة. وفي موضع الاتهام زعماء وقاده، والراوي يجلس متشوقاً لمعرفة المسؤول عما حاق بنا وجرى لنا، حديث بين القاضي والزعماء بلغة لم يسمعها البطل من قبل. واستعد القاضي للنطق بالحكم باللغة العربية. ولكن القاضي أشار إلى الراوي، إلى البطل، ونطق بحكم الإعدام، "فصرخت منبهاً القاضي بأنني خارج القضية وانني جئت بمحض اختياري لأكون مجرد متفرج، ولكن لم يعبأ أحد بصراخي". هل لاحظت أن الحلم هو تطوير لرواية محفوظ القصيرة "أمام العرش" حيث يحاكم كل من حكموا مصر منذ فجر التاريخ إلى الآن. هذا عن الأحلام، فماذا عن الأغاني؟ يقول نجيب محفوظ انه في الوقت الذي لا يجد ما يفعله، يسلم نفسه للذاكرة، يتذكر الأغاني القديمة التي اعجب بها. والتذكر يتحول إلى استعادة للنغم وأحياناً إعادة غنائه، أسأله: تغني بصوت مسموع أم انه غناء داخلي؟ يقول لي: مرة هذه وأخرى تلك. كانت هناك فكرة قديمة بنشر هذه الأغاني التي يتردد صداها في وجدان نجيب محفوظ، والأغاني كثيرة. سمعنا مطالعها من نجيب محفوظ أكثر من مرة. في جلسات سابقة. بل كنا: توفيق صالح وجمال الغيطاني وكاتب هذه السطور، نستقل سيارة توفيق صالح الفيات 127 الصغيرة البيضاء، ونجري بها وهو يدير شرائط هذه الأغاني في كاسيت سيارته، وكنا نصل إلى أول طريق مصر إسكندرية الصحراوي، وفي طريق العودة كان نجيب محفوظ يعلق على الغناء الذي استمع إليه بأنه غسله من الداخل. وتلك مطالع بعض هذه الأغاني: يمامة بيضا ومن يجيبها / بطلو ده واسمعو ده / أنا هويت وانتهيت / ارخي الستارة اللي في ريحنا / احسن جيراننا تجرحنا/ اوعى تكلمني بابا جاي ورايا / يا خد باله مني / ويزعل ويايا / طيب وأنا مالي/ طيب يا غزالي/ حود من هنا/ وتعالى عندنا / ان كنت ناسي أفكرك / ياما كان غرامي بيسهرك / ياللا بينا نتمرجح سوا / ساعة في مرجيحة الهوا. إن الخيال الإنساني هو النعيم الحقيقي الذي يعيش فيه نجيب محفوظ. ذلك انه يمكنه من استحضار كل مسرات الحياة وامتلاكها. في مناسبة الاحتفال بعيد ميلاده، يعلن قسم النشر في الجامعة الأميركية عن الفائز بجائزة نجيب محفوظ. وفي مصر مسابقتان تحملان اسمه. الأولى تنظمها لجنة القصة في المجلس الأعلى للثقافة. وهذه تعلن في الصيف. والأخرى تنظمها الجامعة الأميركية وتعلن يوم عيد ميلاده. وقسم النشر في الجامعة الأميركية هو الناشر لجميع أعمال محفوظ باللغة الانكليزية، وقد ترجم 28 عملاً ونُشرت باللغة الإنكليزية، إضافة إلى 400 طبعة باللغات الأجنبية الأخرى. وهذه الأعمال ترجمت الى أكثر من 30 لغة، وعلاوة على الجائزة هناك صندوق نجيب محفوظ لدعم ترجمات الأدب العربي. وتصدر أسبوعية "أخبار الأدب" عدداً خاصاً عن نجيب محفوظ في هذه المناسبة، تنشر فيه بعض قصص مجموعته "أهل الهوى". وهي العمل الوحيد الذي نشر لنجيب محفوظ في سلسلة "روايات الهلال". ونجيب محفوظ ليس لديه مجموعة من القصص القصيرة تحمل هذا الاسم. إنها أقرب إلى مختارات اختارها نجيب محفوظ بنفسه، بعد حصوله على جائزة نوبل "تشرين الأول/ اكتوبر 1988" اختارها مستنداً إلى عناوينها في جلسة جرت في مكتبه في "الأهرام" عندما كان يذهب إليه. وكان مصطفى نبيل رئيس تحرير مجلة "الهلال وكتاب الهلال وروايات الهلال"، ذهب إليه حاملاً مجموعاته القصصية كلها ليختار منها هذه المختارات، لأن ارتباط محفوظ بناشره يمنعه من السماح بطبع عمل له خارج هذه الدار. وعلى ذكر مصطفى نبيل، فقد أصدر جزءاً خاصاً من عدد كانون الأول ديسمبر من مجلة "الهلال" عن نجيب محفوظ، تصدرته كلمة بخط نجيب محفوظ يشكر فيها مجلة "الهلال" على ما قدمته للثقافة العربية، وما أصدرته عنه من أعداد خاصة، صدر الأول عام 1970، وأصدره رجاء النقاش عندما كان رئيساً لتحريرها، ويعد العدد الثاني الذي يصدر من مجلة مصرية عن نجيب محفوظ، لم يسبقه سوى عدد خاص أصدره أحمد حمروش من مجلة "الكاتب" قبل "الهلال" بتسع سنوات، ويشكرها على عدد تشرين الثاني نوفمبر 8819، بعد حصوله على جائزة نوبل، في هذا الجزء يكتب ماهر البطوطي عن سر العلاقة بين فان غوغ ونجيب محفوظ، ويكتب الدكتور ماهر شفيق فريد عن نجيب محفوظ في "مرايا النقد الغربي"، أما زكي سالم فيكتب في الصفحة الأخيرة من المجلة، عن زيارة نجيب محفوظ لتمثاله، الذي أزيح الستار عنه أخيراً، وقد ذهب مع نجيب محفوظ، ليرى نجيب محفوظ الإنسان نجيب محفوظ التمثال، وعندما سأله عن رأيه في التمثال، قال له لا يصح شيء سوى أن أسعد بالتمثال، وعندما قرأ له: المهندس حافظ عزيز المقالات التي تتهكم على التمثال، علق نجيب محفوظ قائلاً: يبدو أن هذا التمثال مستوحى من رواية الشحاذ. هل لاحظت قدرة نجيب محفوظ الفريدة على انتقاد تمثال أقيم له، ولم يكن معبراً عنه، إنه الانتقاد الذي لا يوجع ولا يؤذي، وتلك عبقرية نجيب محفوظ، الذي كان حريصاً على إرضاء الجميع، والتعامل مع الأشياء الجميلة فقط في البشر، والتغاضي عن كل الحفر والعيوب والمآسي. أما عن الكتب التي تصدر عنه في مصر فتوشك أن تكون اسبوعية. ويبقى نجيب محفوظ مع تذكاراته الخاصة. أهمها قلم أهداه له توفيق الحكيم. حب نجيب محفوظ للحكيم سببه انه أقرب جيل الأساتذة إلى الفن، ونسخة من كتاب على غلافه علم مصر الذي كان موجوداً قبل الثورة. اللون الأخضر والهلال الأبيض والنجمات الثلاث البيض. يبقى نجيب محفوظ في بيته طوال النهار. يخرج كل يوم في الخامسة والنصف مساءً، مع أصدقائه، ويعود في التاسعة والنصف، ما عدا يوم السبت الذي يحضر فيه إليه محمد سلماوي ليتفقا على كلمة محفوظ التي تنشر في "أهرام" يوم الخميس تحت عنوان وجهة نظر. كل يوم يخرج إلى مكان يجلس فيه مع مجموعة من الأصدقاء. في كل يوم تختلف المجموعة عن الأخرى. والمكان أيضاً يختلف من يوم إلى آخر، وفي هذه الجلسات يستمع إلى ما يجري ويحدث. ويعلق بكلمات عابرة وأحياناً بنكتة، فالرجل ما زال ابن نكتة. وعندما يضحك فإن الضحكة تأتي من القلب. صافية مثل الأيام الخضر، التي عاشها نجيب محفوظ. وهي الأيام التي ولت ولن تعود بعد ذلك أبداً.