هذه الديار ستظل متعلقة بالإسلام وتحتاج منا فقط أن ننفتح عليها ونعيدها إلى ثقافتها العربية التي كانت في يوم ما هي لغة العلم والتعلم في مدارسها العريقة.. وسط آسيا ودولها قد تكون غامضة عند الكثيرين، مع أن كثيراً من الأسماء التي عرفناها في تاريخنا أتت من هذه المنطقة ومن أوزبكاستان على وجه الخصوص، ولعل من يعرف الإمام البخاري والترمذي وابن سينا وعلامة اللغة العربية الزمخشري والفرغاني وغيرهم، وهم جميعاً خرجوا من هذه البلاد سوف يستغرب أننا لا نعرف عنها سوى أسماء مدنها العالقة في الذاكرة والتي لا تعني أي شيء أكثر من حدث في التاريخ الإسلامي المبكر ولا شيء بعد ذلك. بخارى وسمرقند وخوارزم، المدن العالقة في ذاكرة كثير منا نحمل لها حنيناً ما لا نعرف كنهه لكنه موجود داخلنا يدفعنا للفتوحات العربية المبكرة وإلى ذلك العزم والهمم العالية التي قادت أجدادنا إلى تلك الديار، إنه "توق" "جيني" يجعلنا لا ننفك نفكر في ذلك المكان الغامض الذي خرج منه عدد كبير من علماء الأمة في كافة العلوم، وهو توق محمل بالرغبة في إعادة الارتباط بالتاريخ والجغرافيا والناس. في الطريق إلى "طاشقند" كنت أفكر في كل ما سأراه في هذه الديار البعيدة جغرافياً القريبة من القلب وكنت أتخيل "تيمورلنك" مؤسس الدولة التيموية (1336 - 1405م) وصانع أمجادها، وأتذكر حكايات التراث التي ارتبطت بهذا القائد المسلم الذي يبدو أن التاريخ لم ينصفه. وصلنا إلى العاصمة الأوزبكية قبيل الفجر، أنا والدكتور صالح الهذلول والدكتور محمد بن صالح والدكتور هاني الهنيدي، وجميعنا نشتغل بالعمارة، لقد كان المفترض أن نبدأ من هذه المدينة ونرحل منها جواً إلى "خيوة" في خوارزم لأن رحلتنا تبدأ من هناك لكن ظروف الطيران أجبرتنا على الجلوس ليوم كامل في طاشقند فقررنا أن نغتنم الفرصة ونتعرف على المدينة، وفعلاً سكنا في فندق اسمه "إيشان قلعة" وهو عبارة عن مجموعة فلل مبنية بالطوب على الطراز "التيموري" ولم تكن الغرف جاهزة لذلك قررنا أن نترك حقائبنا والقيام بجولتنا ثم العودة إلى مقر الإقامة. حسب ما قيل لي، العاصمة الأوزبكية تخلو من المحطات التاريخية المهمة التي شددنا الرحال من أجلها لكن مرشدنا قال: هناك ما يستحق المشاهدة خصوصاً الجامع الكبير، فهناك يوجد مدرسة تاريخية ومتحف للقرآن يحتوي على أقدم نسخة للقرآن الكريم وهي النسخة التي أخذها تيمورلنك من العراق أثناء غزوه لها. الجامع الكبير اسمه "حضرة إمام" وهو مبنى حديث لكنه بني بشكل كامل على الطراز التيموري التقليدي الذي يتميز بقاعة الصلاة العملاقة التي تخلو من الأعمدة مع وجود قبة مركزية "تركوازية اللون" بينما يحيط صحن الجامع رواق خشبي ذو أعمدة منقوشة يعلوها كأس يشبه الوردة وللعامود "خصر" نحيف عن القاعدة. ويقع خلف الجامع مباشرة متحف القرآن وهو مبنى تاريخي توجد نسخة القرآن في وسطه بينما توجد قاعات صغيرة توجد بها نسخ من المصاحف ومخطوطات للمصحف بلغات مختلفة. ويلي ذلك المدرسة التاريخية "بركة خان" التي تستخدم اليوم كمكان لبيع المنتوجات الحرفية. الطراز "التيموري" يمثل نقطة تحول في العمارة بالحضارة الإسلامية، فمنذ القرن "الرابع عشر" حدث تحول مع الحملات التي قادها "تيمورلنك"، وبالمناسبة "لنك" تعني "الأعرج"، فقد أصيب تيمور في إحدى المعارك في يده ورجله وسببت له إعاقة دائمة، أقول: إن هذا القائد جلب جميع الحرفيين والبنائين من كل المناطق التي استولى عليها وصنع معهم نمطاً معمارياً صرحياً غير مسبوق. من "طاشقند" بدأت أستوعب ما يميز المجتمع الأوزبكي، بل جميع المجتمعات في وسط آسيا التي لتوها انفكت من هيمنة سوفيتية/ روسية كادت أن تفقدها هويتها. ما يجمع دول وسط آسيا هو الإسلام واللغة الروسية وهذا شيء غريب لكنهم يتوقون بشدة إلى "المسجد" وإلى العربية التي فقدوا الاتصال بها. أحد من قابلتهم رآني وأنا أقرأ ما كان مكتوباً على جدران مدرسة "بركة خان" فقال لي: إنني أشعر بالحزن كوني لا أستطيع أن أقرأ ما كتبه أجدادي في هذا المكان. لا أنكر أبداً أن اليوم الذي أمضيناه في طاشقند فتح عيوننا على "تقصيرنا" الكبير، نحن العرب، على المستوى الثقافي في هذه المنطقة خصوصاً بعد أن تجولنا في السوق ووصلنا إلى مسجد اسمه "خواجة أحرار علي" وكان وقت صلاة الظهر ووجدنا كثيراً من الشباب الأوزبكي يؤدي الصلاة. هذه الديار ستظل متعلقة بالإسلام وتحتاج منا فقط أن ننفتح عليها ونعيدها إلى ثقافتها العربية التي كانت في يوم ما هي لغة العلم والتعلم في مدارسها العريقة.