المتغيرات الدولية المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط، تكشف عن مقاربات مهمة بين الدول الفاعلة والمؤثرة في السياسات القائمة. وبلا ريب فإنّ الاعتبارات الجيوسياسية والإستراتيجية تلعب دوراً فاعلاً في نسق التفاعل بين هذه القوى ذات المصالح الحيوية في المنطقة. وشهدت العلاقة الإيرانية مع القوى الفاعلة في المجتمع الدولي شداً وجذباً منذ قيام الثورة الإيرانية، حيث اعتبرت الدول الغربية، وأميركا بشكل خاص، أنّ ما تقوم به إيران من مساعٍ لتقوية نفوذها، في منطقة الشرق الأوسط، يعد خرقاً للمسلّمات في السياسة الدولية، فاتخذت إجراءات واضحة إزاء تهديد إيران لإمدادات النفط وغلق المضائق والممرات الدولية، وكان أهم هذه الإجراءات ما عُرف بسياسة «الاحتواء المزدوج» إبان الحرب العراقيةالإيرانية. تعاقبت على المنطقة أزمات كثيرة وحرب مدمرة، بدءاً من احتلال العراق لدولة الكويت وتداعياته العميقة على العمل العربي المشترك، ثم أعقب ذلك الاحتلال الأميركي للعراق 2003 وما أسفر عنه من تفويض القوى الموالية لإيران من تسلم مقاليد الحل والربط في العراق بعد صدام، فصار العراق رهينة السياسات الإيرانية العنصرية ضد العرب من العراقيين. وتكرست هذه السياسة الإيرانية العنصرية البغيضة، وتجلت في استمرار تدخلات طهران السافرة في الشؤون الداخلية العربية، ومحاولة تفتيت مجتمعاتها، وتقويض منجزاتها في سوريا وفي لبنان وفي اليمن؛ حيث دعمت وقامت ولا تزال تسلح المليشيات المتمردة التي انقلبت على السلطة الشرعية، وهو ما تفعله برعونة في أكثر من بلد عربي، في مخالفة لكل الأعراف والمواثيق الدولية. السلوك الإيراني يؤكّد ما تنطوي عليه سياسات نظام الملالي من أهداف تمس مصالح دول المنطقة، وتهدد الأمن والسلم الدوليين. ومع ذلك استطاعت إقناع بعض الدول الأوروبية، وإيهامها بأنّ التعاون معها والتوقيع على الاتفاق النووي يَصْب في مصلحتها القومية. بيْد أنّ الإدارة الأمريكية الجديدة انتهجت سياسة خارجية مغايرة كلياً عن الإدارة السابقة، وأعلنت الانسحاب من الاتفاق النووي، مؤكدة أنّ في الاتفاق ثغرات لا يمكن القبول فيها، مشيرة إلى مضي إيران في تطوير قدراتها الصاروخية الباليستية، وإمعانها في دعم الاٍرهاب والتدخلات في دول المنطقة، خصوصاً في سوريا واليمن. لعل ما ورد من حقائق سابقة يعلمه الكثيرون، لكنّ التذكير به يأتي في سياق التدليل على أنّ نظام طهران يعاني، كغيره من الأنظمة الديكتاتورية من عقدة الإنكار، وهو ما قاده إلى العزلة الدولية الخانقة التي تهدّد الاقتصاد الإيراني بالانهيار، وبعض المراقبين يتوقعون انهيار النظام الإيراني على طريقة الاتحاد السوفياتي. وبسبب مؤامرات إيران لزعزعة البناء الداخلي للدول، قرر المغرب قطع علاقاته الدبلوماسية وطرد السفير الإيراني، كما فعلت الكثير من الدول العربية والإسلامية التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع طهران، أو خفّضت التمثيل الدبلوماسي؛ احتجاجاً على هذه التصرفات الهوجاء التي تخالف القانون الدولي والعرف الدبلوماسي. وفي سياق ذلك، قررت الإدارة الأميركية رفع وتيرة الضغط على إيران، عبر التصريحات الإعلامية الكثيفة المترافقة مع التحركات الدبلوماسية في المحافل الدولية، والمعطوفة على دعوة دول العالم التوقف عن شراء نفط إيران، والتعامل معها، اعتباراً من الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، محذرة الدول التي لا تلتزم بهذا الطلب بأنها ستواجه، من دون استثناء، عقوبات أميركية. لقد أسهمت هذه الضغوط في اهتزاز الاقتصاد الإيراني الذي يشهد ارتفاعاً في أسعار بعض السلع الأساسية، وتدهوراً في سعر صرف الريال الإيراني أمام الدولار. ومع ذلك لا تزال إيران تكابر بأنّ هذه الأمور، حسب تصريح مسؤوليها، ما هي إلا من باب الحرب النفسية على طهران، وهو لا يخيف إيران القوية، مع أنّ هذا التبجح تدحضه مؤشرات السوق الإيرانية التي تؤكد عمق الأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد، كما تدحضه العريضة الاحتجاجية التي قدمها مئة وسبعة وثمانون نائباً، من أصل مئتين وسبعين نائباً، من أعضاء مجلس الشورى الإيراني، حمّلوا فيها الفريق الاقتصادي للرئيس الإيراني حسن روحاني المسؤولية عن فقدان الثقة لدى المواطنين الإيرانيين، وطالبوا بعزله أو استقالة حكومته. الضغط الأميركي على طهران استجابت له الكثير من الشركات الأوروبية والأميركية؛ حيث أعلنت الخطوط الجوية الفرنسية والخطوط البريطانية عن توقيف رحلاتهما إلى طهران اعتباراً من شهر كانون الأول (سبتمبر) المقبل. واستجابت للأمر نفسه شركة بيجو وجنرال إلكتريك وهاني ول وبوينغ ولوك أويل وريلاينس ودوفر وسيمنز وتوتال، وغيرها من الشركات الكبيرة في مجالات متعددة في الطاقة والإلكترونيات والطائرات، إذ قامت هذه الشركات العملاقة إما بإنهاء عملها، أو الانسحاب من مشروعات وعقود مع الحكومة الإيرانية. إيران تكابر وتتحدى العالم بالصراخ والتصريحات الإعلامية الجوفاء، فضلاً عن البروباغندا التي تستهدف إثارة مشاعر الإيرانيين الفقراء وشحنهم أيديولوجياً، لكنّ هؤلاء الفقراء، الذين يشكلون السواد الأعظم من الشعب الإيراني، يدركون لعبة نظام الملالي، لذلك كانت هتافاتهم وشعاراتهم خلال المظاهرات الاحتجاجية واضحة: «عدونا هنا، يكذبون حين يقولون إنه أميركا»!! * كاتب ودبلوماسي سعودي سابق Your browser does not support the video tag.