حين يرحل العظماء يبقى صدى أفعالهم يتردد في الوجود وكأنهم لا يغيبون بل يحيون في التفاصيل الصغيرة التي تركوها خلفهم. جدي.. يا من كنت أب لكل قلب عرفك وسندا لكل من التجأ إليك أجد نفسي عاجزا أمام رحيلك وكأن الأرض فقدت شيئا من اتزانها وكأن الحياة فقدت نكهتها. جدي.. كيف أصف رجلاً كان حضوره امتدادا للطمأنينة؟ كان رجلا يتشح بالوقار كان نادرا في حكمته عظيما في تواضعه وملهما في عطائه. ما عرفناه إلا معطاء كريما لا يرد يد امتدت إليه ولا قلبا جائه طالبا، كان كرمه بحجم السماء وعفوه كنهر لا يتوقف جريانه. لم تكن حياته مجرد سنوات تمضي بل كانت مدرسة تعلم فيها كل من حوله فنون الحياة فن العطاء دون مقابل وفن التواضع مع القوة وفن الحب بلا شروط. كان يسير على الأرض خفيفا عفيفا هادئا. إنه في أعيننا جبل شامخ لا تهزه رياح المصاعب ولا ينحني أمام أعتى الظروف. أحن إلى خطواته البطيئة الواثقة وإلى صوته الذي كان يملأ المكان سكينة وإلى وجهه الذي لم يفارقه البسمة حتى في أصعب اللحظات كان ملجأ لنا نطلب نصيحته فنجد الحكمة ونسعى إلى قربه فنجد الحب. جدي.. لم يكن وجوده عاديا في حياتنا بل كان نسيج من فضيلة ورحمة كان كتاب مفتوح يروي قصص من الوفاء والبر والتضحية والكرم، كان رجلًا يسبق زمنه، يرى الأمور بوضوح لا يراه أحد، وتحمل الصبر في قلبه وكأنه سر قوته الذي لم ينفد أبدا. اليوم ونحن نودعك أجدني أسترجع كل لحظة جمعتنا بك كل كلمة قلتها وكل ابتسامة وزعتها بسخاء أبحث عنك في ملامحنا في عاداتنا التي تعلمناها منك في الدعوات التي لم تنقطع عن لسانك. أدركت الآن أن الرجال مثلك لا يموتون بل يعيشون في كل شيء تركوه وفي كل قلب أحبهم، نم قرير العين يا جدي فقد خلفت وراءك إرثا من المحبة والذكر الحسن، فقد تركت لنا ما يضيء دروبنا من بعدك. رحمك الله يا جدي وأسكنك الفردوس الأعلى وجمعنا بك في مستقر رحمته.