قبل سنوات حدثت لي قصة طريفة في المسجد النبوي الشريف.. كنت أنتظر صلاة الجمعة بجانب رجل (تجاوز السبعين) أيقنت من لهجته أنه يمني الجنسية.. ومن خلال حديثي معه أدركت أنه يدخل المسجد النبوي لأول مرة - بل ويسافر خارج اليمن لأول مرة.. جلس أمامنا رجلان بدأا يتحدثان باللغة التركية فأخذ "الشايب" يهز رأسه ويضحك.. التفت لي وقال: "والله مدري كيف هذولا العجم يفهمون بعضهم؟".. كتمت ضحكتي وقلت: يا عم هؤلاء أتراك، ويتحدثون مع بعضهم باللغة التركية.. قال بكل ثقة: أنت ما تسمع، كلامهم غريب وما تفهم منه كلمة واحدة.. كتمت ضحكتي مجدداً وقلت: كما نفهم أنا وأنت اللغة العربية، يفهمون هم بلغتهم.. قال وكأنه لم يسمع ما قلت: يا ولدي، لغتنا العربية واضحة، والقرآن نزل بلسان عربي مبين، ولكن هذولا العجم كيف يفهمون بعضهم؟! أدركت أننا نتحدث بلغتين مختلفتين، فأنهيت النقاش بقولي: معك حق يا عم، لا أعرف كيف يفهمون بعضهم.. هذه القصة أنموذج للحكم على الأشياء من خلال واقع شخصي ضيق ومعزول.. فهذا الرجل لم يسافر في حياته ولم يقابل أحداً غير أبناء قريته ولم يسمع يوماً لغة غير لغته.. لم يكن غبياً أو معتوهاً، ولكنه فقط يحكم على العالم من خلال النماذج التي يعرفها والمقاييس التي نشأ عليها، يثق برأيه لأنه ينطلق من واقع مؤكد شاهده في قريته طوال السبعين عاماً الماضية.. معظم الناس لا يفرقون بين (الواقع) و(المنطق).. الواقع ينطلق من تجربة خاصة ومفاهيم شخصية، أما المنطق فقواعد عقلية مجردة يحتكم إليها جميع الناس - بمختلف ميولهم وقناعاتهم الشخصية.. مشكلة الرجل السابقة لم تكن في (آلية الحكم) بل في امتلاكه واقعاً ضيقاً ومعزولاً انطلق منه للحكم على بقية البشر.. كم مرة سمعت شخصين يتناقشان بحدة ويقول كل منها للآخر: "يا أخي خليك واقعي".. لو كان "الواقع" ثابتاً ومتفقاً عليه لما اختلفا أصلاً، غير أن كلاً منهما يملك واقعاً خاصاً يريد تعميمه بدافع من قناعته بأنه صحيح ومطلق لا يختلف عليه أحد!! وأنت بدورك تملك واقعاً (خاصاً) تحكم على الأشياء من خلاله.. ترى الأمور بسببه واضحة كوضوح الشمس لدرجة قد تستغرب كيف لا يتفق معك الناس حوله.. هذا ما نلمسه مثلاً لدى بعض المتشددين ممن يحكمون على الغير من خلال واقع تربوا عليه ووثقوا بصحته لدرجة اليقين (وهو ما يفسر إخلاصهم في حث الناس عليه).. يعترضون على مظاهر كثيرة في المجتمع يرضاها الرجل لزوجته، والأخ لشقيقاته، في حين يرونها هم تهاوناً شخصياً وتدهوراً اجتماعياً. لو تخلوا لدقيقتين عن واقعهم الخاص، لأدركوا أن الزوج والأخ أحرص منهم على أسرهم ولكنهم ينطلقون من واقع أكثر اتزاناً وشمولية لا يرونها أصلاً. لهذا السبب قبل أن تحتكم إلى "الواقع" تأكد أولاً أنه واقع منطقي وسليم ومتوازن.. تأكد أنه لم ينطلق من تربية خاطئة، أو بيئة ضيقة، أو مفهوم استثنائي أو جهل بثقافات ومفاهيم الآخرين.. حين يختلف معك معظم الناس، قد يكون هذا مؤشراً على اختلال واقعك أنت وليس هم (بدليل: لا تجتمع أمتي على ضلالة).. بقي أن أشير إلى أن فكرة اليوم خطرت ببالي أثناء سماعي لصديقين اختلفا حول نقاب المرأة انطلق كل منهما من واقع مختلف.. قال الأول للثاني: "يا أخي خليك واقعي لو كان كشف الوجه مباحاً لماذا ماتزال أمهاتنا وجداتنا يغطين وجوههن".. فرد عليه الآخر "أنت خليك واقعي؛ وجه الإنسان فيه أهم منافذ الجسم فكيف تتنفس المرأة وترى وتأكل وتشرب من خلف حجاب أسود".. ولأنني مللت شخصياً من هكذا موضوعات أخرجت جوالي وكتبت في النوتة الصفراء: "أكتب مقالاً بعنوان خليك واقعي.. وأبدأ بقصة اليماني الذي قابلته أيام المتوسطة في الحرم...". Your browser does not support the video tag.