تعاطى السابقون الذين أدركوا بالفطرة الصلة الوثيقة بين حياتهم والأرض التي تعدهم بالخصب والنماء كل عام، بحكمة ورشد مع مقومات حياتهم ومعاشهم.. وتعامل الأحفاد الذين لم يسوقوا ماشيتهم بحثاً عن الحياة.. باستخفاف وجهل مطبق وثقافة مدمرة.. يا من يرى عارضاً قد بِتُ أرمُقه كأنما البرق في حافاتِه شعلُ قالوا: نَمارٌ فبطنُ الخالِ جادهما فالعسْجَديّةُ، فالأبلاءُ، فالرّجَلُ فالسفحُ يجري، فخنزيرٌ، فبرقتُه حتى تدافع منه الربو فالجبلُ أستعيد هذه الصورة المدهشة، كلما لاح بارق ممطر، كما كان يرمقه ميمون بن قيس على ضفاف وادي حنيفة، حيث سجل الشاعر الجاهلي (الأعشى) قبل ما يزيد على ألف وأربع مئة عام صورة مدهشة لانهمار السحب والمواقع التي غمرتها، والرياض التي أسقتها، والبيئة التي صنعتها في قلب نجد. وكلما بدا عارض ممطر على ضفاف هذا الوادي، ليغسل أوحال المدينة.. ويسقي الرياض في جنباتها.. طافت بإلحاح تلك الصورة الخالدة التي جسدها أعشى منفوحة في قصيدته اللامية الشهيرة. أنشودة المطر في هذه الأرض لا تشبه أنشودة السياب العظيمة، أنشودته كانت احتجاجاً صارخاً على الظلم والجوع والفقد.. ولم ير المطر بكل خيراته سوى عنواناً لمزيد من الغرق في أوحال البؤس والشقاء.. بين أحلام لا تأتي، ومواجع ولهيب لم يطفئها مطر، ولم تسقها رعود الخليج. العراق نهران عظيمان.. أما نجد فاشتياق طويل لحبات المطر واحتفالية قصيرة بالهطول. أنشودة المطر في نجد، حداء للخصب واشتياق كبير لهذا العناق بين أرض عطشى للحياة وغيث تجود بها السماء. أنشودة المطر في صحراء ورياض نجد احتفالية الخصب بعد طول جفاف، لم يبق سوى على أشجار طلح كقامات الرجال الكبار التي تأبى الانحناء، وهي تقاوم الهجير طيلة العام بانتظار موسم الري والخصب، وعناق طال انتظاره بين حبة رمل وقطرة مطر. ويأتي الوصف القرآني الكريم بصورة مدهشة لهذا العناق.. «وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ». تهتز الأرض نشوة وتربو، وهي تحمل جنينها لتلد من كل زوج بهيج.. وكل حمل بين الأحياء مبدؤه اهتزاز ونشوة.. وفي كل شبر منها ثمة قصة عناق جميل ونشوة عظيمة.. لتلد أزواجاً بهيجة من كل لون ورائحة.. يبتهج الخلق على الأرض بالحياة تتجدد، وبالخصب ينتشر. ويدعو «البدو» الربيع ب»الحيا» وهو حياة لهم ولماشيتهم، التي تربو وتعطي عطاء الجود.. حتى تحين بوادر الصيف لتنحسر تلك الصورة.. وتنكمش تلك اللوحة الفريدة.. بانتظار مواسم أخرى ونشوة أخرى وولادة أخرى تبهج البشر والشجر والطير والحيوان بثمرة ذلك اللقاء الفريد. تعاطى السابقون الذين أدركوا بالفطرة الصلة الوثيقة بين حياتهم والأرض التي تعدهم بالخصب والنماء كل عام، بحكمة ورشد مع مقومات حياتهم ومعاشهم.. وتعامل الأحفاد الذين لم يسوقوا ماشيتهم بحثاً عن الحياة.. باستخفاف وجهل مطبق وثقافة مدمرة. تشكو الأرض من جهل إنسان يملك اليوم من وسائل الوصول إلى أصقاع بعيدة، نزعته لإفناء الحياة.. فلم يكتف من حطب الصحراء الجاف ما يشعل به ناره في وهدة الليل، يسامر الأشواق في سكون الصحراء المهيب.. فلا يتورع أن ينزع الأشجار المعمرة من جذورها فتشكو الأرض لله جور إفناء الحياة والأحياء.. وتشكو الطيور المهاجرة عبر الصحراء وهي تزور كل عام تلك الأشجار المعمرة تحميها من الآفات والفطريات، تلتقطها كما يلتقط الجراح الماهر الخلايا القاتلة من جسد المصاب.. تشكو تلك الطيور من الصيد الجائر.. ليكون الضحية ذلك التوازن الفريد في الطبيعة والبيئة. تنكفئ الأشجار المعمرة معلنة موتها بعد انقطاع زائرها الموسمي، وبعد أن كانت لمئات السنين سمة لا تفارق ملامح الحياة في بيئة شحيحة.. ولم تغفر لها فرادتها وندرتها من أن تلقى حتفها على يد بشر هم في أمس الحاجة لها.. لو كانوا يعلمون. وتشكو الأرض جور الإنسان، ابن الصحراء ووليدها؛ فهو يأتي ليستمتع بها في مواسم الخصب ثم يرمي نفاياته القاتلة غير مبالٍ بما تجلبه من عواقب قاتلة لنبتة تحاول معانقة الهواء والشمس وهي تستمد الري القليل من بقايا غيث عابر.. وهي نفايات مصنعة غريبة عن بيئة الأرض الأم.. مكوناتها سموم قاتلة لها.. لا تتحلل بسهولة، وقد تمر أعوام طوال وهي تسرب للأرض سمومها وتزيد في جدبها، وتكرس حالة تصحر دائمة، ناهيك عن تشويه لوحة الأرض الطبيعية الجميلة بهذا النشاز القاتل للذوق والجمال والفطرة السوية. ويشكو الإنسان الطبيعي، سوي الفطرة والمتذوق لجمال الصحراء بعد هطول المطر وانبثاق أولى بوادر الحمل الجميل.. من مخيمات كيفما اتفق، تقتطع من الأرض مساحات شاسعة مسيجة بسواتر بشعة من تراب ونفايات تمتد أحياناً لكيلو مترات في صحراء للناس أن يستمتعوا بها ويخرجوا إليها وينتشروا في جنباتها، ولكن ليس لأحد منهم أن يقتطعها ويجعل البحث عن مكان لم تغزه تلك الظواهر البشعة أمراً صعباً مرهقاً.. تأملوا الصورة التي رسمها الشاعر الكبير الأعشى لإحدى الروضات القريبة من المدينةالرياض، وقارنوا بينها وبين ما ترون اليوم من انحسار وهدم، وستعلمون حينها الفارق بين جنات تجود بها مواسم الخير وبين صورة شحيحة لأرض جار عليها أبناؤها.. فلم تعد سوى بقايا نادرة لحياة مرت من هنا.. وأين منها وصف الأعشى: ما روضةٌ من رياضِ الحزْنِ معشبةٌ خضراءُ جاد عليها مسبلٌ هطلُ يضاحكُ الشمسَ منها كوكبٌ شَرِقٌ مؤَزرٌ بعميمِ النبتِ مكتهلُ Your browser does not support the video tag.