إن «تحفون» ليس شخصاً.. إنه حالة خاصة يجتمع فيها الإنسان والزمان والمكان.. لن تراها ولن تكتشفها سوى في مواجهة صحراء ممتدة امتداد أفق يصافح أطرافها، ولا يبوح بسرها.. من ينتظر كل عام الأجواء الشتوية الجميلة، التي يزيدها القَطْر بهاء وجمالا.. هو على موعد مع نشوة الفرح، حيث تبتهج الأرض بالغيث، والأشجار، بالقطر، والطيور بمواسم الخصب. وعندما تشدو أغنية المطر، فإلى أطراف الصحراء، وأوديتها، وشعابها. إنه موعد عشاق منبتهم وموئلهم تراب أرضهم.. يرونها راحتهم، وسكون قلقهم.. خاصة عندما تتزين لهم كل عام.. إنه موعد السكينة، والانعتاق، بعيدا عن صخب المدينة وتلوثها، وتوترها، وانشغالات أهلها.. إنه عشق لا يعرف مداه وتأثيره إلا من يهواه، ويلامس شغاف نفسه ووجدانه، وهو يرسل بصره بلا حدود ليرحل في تأملات تمر مر السحاب، وتنتشي بخضاب الأرض بعد هطول القطر.. حيث أغنية الحياة تكاد تسمعها في حفيف أشجار الطلح الصامدة.. وفي ثغاء الماشية، ورغاء الإبل، وتلويحة طير يسابق الريح حيث عشه معلق في شجرة تقاوم بشموخ كل الفصول، لتكتفي بفصل وحيد، تستقي منه ما يقيم حياتها طوال العام. إنها لوحة تزدهي بالجمال والصفاء والحنين.. إنها سردية لحيوات مرت من هنا.. فهنا وطأت أرض العرب قبائل رحل.. وهنا بين الأودية، والشعاب، والهضاب، والجبال، والصحراء الممتدة بلا أفق، أو نهايات يحسمها البصر.. توالت قرونا على العرب إلفا وخصومة.. حروبا وصراعات.. وهنا أيضا تليت عيون الشعر بعيون العشاق، وترسمت ملامح الوجد بعيون زادها طلل الربيع جمالا، يفوق الجمال.. وهنا كانت لهم أمجاد، وكانت لهم خيبات.. وهنا توزعت قبائل وحواضر وواحات.. إن تلك الرمال والأحجار والأشجار الضاربة في عمق الزمن.. شاهدة على كل ذاك التاريخ، وحوادثه، وأيامه، وحنوه، وقسوته، وفقره وغناه، ورضاه، وغضبه.. إنها سجل صامت لا ينطق إلا إذا استنطق، ولا يبوح بأسراره إلا لمن يحسن إغراءه، ويفهم لغته، ويدرك إشاراته. أما العابرون الذين لا يستنطقون تاريخا، ولا يناجون شواهد وآثارا، ولا يملكون حسا رفيعا، أو تذوقا رقيقا.. ولا نتفر عيونهم من القبح.. ولا يحلق لهم وجدان بتأمل الجمال.. فهم ليسوا سوى جزء من آفة الأرض.. فالبيئة على أيديهم دمرت، والنفايات انتشرت على مدى مساحات واسعة.. تشكو منها تلك الصحراء لكل عابر مكلوم بهذا الوضع المزري، الذي أحال الجمال قبحا والحياة موتا وخواء. إن ما حدث ويحدث خلال عقد أو عقدين قريبين، لم يكن سوى تدمير متواصل لبقية جمال صحراء، هي عمقنا ومدار وجداننا.. إن ما يحدث اليوم في هذه الصحراء الشحيحة، الأمطار قليلة الاخضرار، هو تشويه وتدمير للبيئة الأم.. إنها ليست ممارسة غير حضارية وغير أخلاقية.. إنها جريمة مع سبق الإصرار على التكرار القاتل.. إنه عقوق بالغ لهذه الأرض التي لا تريد منا سوى الاستمتاع بما تمن به في مواسم الخصب.. لا أن نقتل آخر جمال نحاول اكتشافه واستعادته كل عام. شعب لا يرى البشاعة في نشر مخلفاته على مساحات واسعة بلا قلق من ضمير أو وجدان.. ربما يأتي يوم تأنف فيه هذه الصحراء عن استقباله بعد أن قتل ما فيها من فطرية وتتجدد وجمال. أما "تحفون" فهو الرائع في اللهجة التونسية.. ووقع هذه الكلمة الدارجة يتجاوز الإنسان.. وربما كان اختياره صدى وعنوانا لاكتشاف أبعاد المكان والزمان، في مواسم تبتهج فيها الصحراء، ويمم شطرها عشاق من نوع آخر يحبونها، ويحنون عليها، ويحافظون على ما تبقى فيها من مقومات الحياة. "تحفون".. كل من يزعجه هذا التلوث، فلا يملك عندما يرحل لأطراف الصحراء سوى ان يحمل كيسا أسودَ كبيرا، يجمع فيه مخلفات الآخرين التي نثروها، وبعثروها على مساحات الأرض التي تئن من شقوة الإنسان. "تحفون".. من يحيل رحلات الصحراء حين تبتهج بالقطر، إلى لوحة غناء بالبهجة والحضور من أجل إشاعة الفرح بين أقرانه.. ليصبح العنصر الأكثر حيوية في صناعة أجواء الرحلة.. حتى إذا خلت من وجوده بدت تفتقر لعنصر الإمتاع.. لأن ثمة امتناع يحول دون صناعة المزيد من أجواء رحلة التحرر من قيود اليومي.. "تحفون".. عيون تترقب السحاب، ومنابت القطر ومهوى الجمال.. وهي تستعد لأيام مختلفة.. فعشقها لا ينفصم عن الأرض التي قُد قوامه من طينتها، ولا يرى عشقا أعظم منها.. ولا شوقا أكبر من مصافحة رذاذ القطر.. حين تهتز الصحراء وتربو لتنبت من كل زوج بهيج.. "تحفون".. استعداد لافت.. لتطوير الفكرة من نزهات "البر" الخاطفة.. إلى مستوى الاكتشاف والبحث في عمق الصور، والملامح، والحيوات التي تختبئ في حنايا الأودية، والشعاب، والهضاب، والجبال.. إن روعة الرفقة ليست في طبيعة الاستجابة، وإنما في مدى القدرة على صناعة عالم الدهشة والإمتاع. ولذا عليك البحث عن "تحفون" إذا كنت من عشاق مواسم الخصب والقطر.. وعليك أن تدرك أن العبرة ليست في كثرة الرفقة، وإنما في نوعيتها.. خاصة لعشاق الرحيل حيث صدى الريح والقطر. إن "تحفون".. ليس شخصا.. إنه حالة خاصة يجتمع فيها الإنسان والزمان والمكان.. لن تراها ولن تكتشفها سوى في مواجهة صحراء ممتدة امتداد أفق يصافح أطرافها، ولا يبوح بسرها.. إنه إغراء بالرحيل لاستعادة حالة صفاء، ومناجاة أرواح، وتاريخ، وأقوام، وحيوات مرت من هنا. إنها رحلات الموسم الواحد.. نودع بعدها تلك الصحراء، ونتركها صامدة تواجه هجير القيظ، وغوائل الاحتباس.. وتظل هي تنتظرنا في عام قادم بعد أن تغتسل بالمطر، وتنتشي بالقطر، وتعبق برائحة النفل، والخزامى.. فليكن "تحفون" زائراً كريماً يشكر لها إمتاعه، ويرحل دون أن يخلف أثرا سيئا تعاني من ويلاته.. وحتى لا يأتي موسم آخر يبحث عنها فلا يجدها.