حين زرت مدينة الإسكندرية لأول مرة في حياتي عرض علي السائق زيارة عدد من المواقع الجميلة.. لم تغرني عروضه، وطلبت منه الذهاب مباشرة إلى مكتبة الإسكندرية - الأمر الذي أثار استغرابه كثيراً... وتعود قصة المكتبة إلى 2340 عاماً مضت، حين أمر الإسكندر الأكبر بتأسيس مدينة تخلد ذكراه وتجمع بين كافة الثقافات العالمية (وهذا سر تسميتها بالإسكندرية).. والإسكندر الأكبر - لمن لا يعرفه - قائد إغريقي دمر بابل وإمبراطورية فارس، واحتلت جيوشه مصر والهند وأطراف الصين، عاش بين عامي 356- 323 قبل الميلاد، وتوفي عن 32 عاماً، ويعتقد أنه «ذو القرنين» المذكور في القرآن الكريم.. ولأنه لم يوص بالحكم لأحد من بعده؛ انقسمت امبراطوريته بعد وفاته، وكانت مصر من نصيب ضابط كبير يدعى بطليموس (الذي أسس سلالة البطالمة الذين حكموا مصر لثلاث مئة عام وكانت كليوبترا آخر ملوكهم).. وتحقيقاً لرؤية الإسكندر الأكبر قرر بطليموس الأول تأسيس مكتبة تجمع كافة العلوم في عاصمته الجديدة (الإسكندرية).. بعث رسائل لملوك الأرض تدعوهم لتزويدها بالمخطوطات وكتب ولفائف لتأسيس مركز يجمع كافة المعارف.. وطوال السبعة قرون التالية أصبحت منارة للعلم والمعرفة، ولم يكن بإمكان أي فيلسوف ادعاء العلم والمعرفة قبل العيش في الإسكندرية والاعتكاف في مكتبتها العظيمة... وترجع شهرة مكتبة الإسكندرية إلى أنها أقدم مكتبة عامة في التاريخ.. كانت الوحيدة المفتوحة لعامة الناس، وتتلقى باستمرار كتباً ومخطوطات من شتى الدول والبلدان - بحيث أصبحت مركزاً عالمياً لاستيراد وتصدير المعارف.. حوت كتب وعلوم الحضارات القديمة (خصوصاً الفرعونية والإغريقية)، وحدث داخلها تمازج مذهل بين معارف الشرق والغرب، حتى ميلاد المسيح كانت تضم نصف مليون لفافة بردي فرعونية، و700 ألف كتاب باللغة الإغريقية، و50 ألف مخطوطة ونسخ مترجمة من الحضارات الآسيوية القديمة كالهندية والصينية... غير أن مكتبة الإسكندرية تعرضت لعدة حوادث حرق أهمها ما حدث عام 48 ق.م حين أمر القائد الروماني يوليوس قيصر بحرق 101 سفينة ترسو أمام مكتبة الإسكندرية (بعدما حاصره بطليموس الثالث عشر شقيق كليوبترا) فامتدت النيران وأحرقت أجزاء كبيرة منها.. غير أنها استعادت عافيتها خلال الأربع مئة عام التالية قبل أن يأمر بحرقها مجدداً الإمبراطور الروماني ثيودوسيوس الأول عام391م.. ورغم حريق ثيودوسيوس صمدت المكتبة حتى عام 640م حين دمرت تماماً (حسب بعض المؤرخين) على يد عمرو بن العاص الذي استشار فيها عمر بن الخطاب فرد عليه: «إن يكن فيها هدى، فقد هدانا الله بأهدى منه، وإن يكن فيها ضلالاً فقد كفانا الله عنه»... وأياً كان المتسبب؛ اختفت مكتبة الإسكندرية تماماً بعد هذا التاريخ، وضاعت معها معارف قديمة لا تقدر بثمن.. غير أن الدولة المصرية قررت إعادتها للوجود بعد اختفائها لأكثر من 1360 عاماً، وتم افتتاحها مجدداً في عام 2002.. واليوم لا تكتمل زيارة الإسكندرية دون زيارة مكتبتها الجديدة التي (وإن فقدت محتوياتها القديمة) ما تزال واحدة من أجمل وأعظم المشروعات الثقافية في الوطن العربي قاطبة... ومن سمع ليس كمن شاهد... Your browser does not support the video tag.