أجمل اللحظات أن يقول الحقيقة نيابة عنك.. من تعوّل عليه، ويعلنها أمام الملأ، وتشعر حينها أن الواقع بلا فروقات أو تجاوزات، وهامش الثقة يتسع ليشمل كل ما بقي في النفس من كلام، وما في الجوارح من رضا، وما بينهما روح تريد أن تبقى على قيد الحياة. اليوم فرحة المواطن بقرارات إيقاف المتهمين في سرقة المال العام ليس لعقابهم، وإعادة ما سرقوه، والقصاص منهم، ولكن مع كل ذلك وأهم أن الدولة نطقت بالحقيقة التي يؤمن بها المواطن نيابة عنه، وانحازت له في مشروع الخلاص من اللصوص، والنهوض معاً في مهمة بناء وطن جديد، ورؤية مختلفة، ومستقبل أفضل. السعوديون قضوا ليلة الأحد الفائت وهم أمام مشهد لم يألفوه، ولم يتوقعوه، وأنساهم صاروخاً باليستياً وصل إلى عمق عاصمتهم؛ فلم يتوقع أحد أن أميراً يتم إيقافه، ووزراء في مناصبهم وآخرين سابقين يقتادون إلى مقر إقامتهم الجبرية، ورجال أعمال بارزين مخمليين يُسحبون بالقوة خلف القضبان. المشهد كان يوماً وطنياً بامتياز.. الجميع كان مبتهجاً بقوة الدولة، وحماية مالها العام، وتحقيق العدالة، وسعيد أكثر أن ثقافته التقليدية عن محاربة الفساد تغيّرت؛ فلم يعد كلاماً بل أفعال، وواقع يفرضه سلمان بن عبدالعزيز بحزم وإرادة. لقد أمضينا وقتاً طويلاً ونحن نطالب أن تجتمع المؤسسات الرقابية على طاولة واحدة، وتشريع أنظمة للكشف عن أموال المسؤولين، وبالغنا في تضخيم توعية المواطنين بخطر الفساد وأهمية النزاهة من دون نتائج؛ وكأن المواطن البسيط هو اللص الذي يجب أن يعي خطر فعله. اليوم محمد بن سلمان يضرب الفساد في عقر داره، وينال منه بقوة الدولة، وهيبتها، وسيفها، ويبدأ بأقرب الناس إليه، ولا يهاب كائناً من كان، حيث لن ينجو أحد من قضية فساد، ويمضي ومعه شعب يحييه، ويدعمه، ويصفق له، ويردد: "يا محمد كفو". ما فعله ولي العهد في تلك الليلة -لحظة تسمية اللجنة العليا لمحاربة الفساد- عجزت عنه مؤسسات الدولة منذ عقود من الزمن، وارتفع معه سقف الطموح إلى ما هو أبعد للنيل من الفاسدين بلا استثناء، وانتصرت فيه الإرادة الوطنية ما بين القيادة والشعب للحفاظ على الثروات والمكتسبات، وتهيئة بيئة العمل نحو تنافسية حقيقية، والاستثمار إلى شراكات متعددة وليس احتكار أو مشروعات على الورق!. الدولة لا يمكن أن تمضي في مشروع إصلاح حقيقي من دون أن تجتث الفساد من مؤسساتها، وبعض المسؤولين المحسوبين عليها، وتستعيد مكانتها، وأموالها، وتعيد الثقة إليها، ومثل ما تحارب الأفكار المتطرفة وتسعى إلى تدميرها تفعل أيضاً مع المفسدين والمتطاولين على المال العام، وهنا درس آخر من أن الإصلاح المالي لا يقل أهمية عن الإصلاح الفكري للمجتمع، ودروس أكثر من أن القادم أجمل.