على هوامش السيرة الذاتية التي نشرت بهذه – الوطن – لمعالي الشيخ الدكتور سعود العلي، تقول الأرقام إن هيئة الرقابة والتحقيق قد باشرت العمل في القضايا التالية: 1169 مخالفة مالية وإدارية، 848 قضية رشوة، 5629 قضية تزوير، 64 قضية اختلاس من المال العام، 1965 صك حكم نافذ من ديوان المظالم بحق أشخاص تورطوا في هذه القضايا. وبالطبع، لم يعد من الممكن مداراة الأرقام الفاسدة ولا التستر على الاسم والفاعل ونائب الفاعل طالما أن الشعب هو الضحية وهو المفعول التام المطلق، مثلما لم يعد من المروءة أن يكون خطابنا ضد مؤسسة الفساد أقل أو أدنى من خطاب خادم الحرمين الشريفين على رأس مؤسسة الإصلاح. السؤال الصريح: من هو الذي يثق أن مؤسسات حكومية مثل هيئة الرقابة والتحقيق أو ديوان المراقبة العامة أو المباحث الإدارية تستطيع أن تقوم بدورها الفاعل ومن هو الذي يثق أن هذه المؤسسات قد عملت في الماضي ما يمكن لها به أن تكون أجهزة ردع ومحاسبة ومكاشفة؟ وإذا كانت هيئة الرقابة والتحقيق، بأرقامها المعلنة، تقول إنها قد أصدرت أحكاماً قضائية نافذة في حق 1965 مجرماً من عتاولة الفساد، فلماذا حجبت الأسماء الفاعلة ولماذا تم التستر على صور هؤلاء المجرمين الشمسية الذين نهبوا الملايين بدمغة القضاء وهيئات الرقابة المختلفة، ولماذا تتستر عليهم بعد الحكم القضائي بالجرم المشهود ونحن بأنفسنا نقود لصوص المنازل والدكاكين إلى الجلد والسجن في الساحات العامة؟ من هم الأخطر إذاً: لصوص الدكاكين وسارقو أجهزة الهاتف الجوال وحقائب النساء اليدوية في الأسواق ومقتحمو السيارات في المواقف العامة أم ناهبو المشاريع وقابلو الرشوة ومتداولوها وسارقو المال العام ومحتالو العقود الحكومية؟ من هو الأخطر إذاً: سارق منزل من بين ملايين المنازل أم سارق أمل لمشروع وطني؟ ولا غضاضة اليوم لدي أن أبث حديثاً سابقاً بيني وبين أحد أعمدة الرقابة الإدارية الوطنية وكان يسرد لي قبيل عام إنجازات إدارته في مكافحة الفساد والرشوة والتزوير والاختلاس وقلت له إنني أبصم بكل أصابع جسدي على صحة الأرقام ولكن: أخرجونا من دائرة الأرقام الرمزية المبهمة فلماذا يظل السارق والمرتشي والمزور رقماً وهو المولود بالاسم الرباعي وهو أيضاً الموجود بالصورة التي يجب أن تنشر على الملأ إذا ما أردنا أن نبدأ الخطوة الأولى في محاربة الفساد؟ كيف يمكن للفاسد والراشي والسارق أن يرتدع إذا ما كان يعرف بالضبط أنه سيظل في الأوراق السرية مجرد رقم من بين آلاف الأرقام وإذا ما كان يعرف أن أول من يحفظ كرامته ويصر على كتمان شخصه وشخصيته ليس إلا أوراق الرقابة والتحقيق، كيف يمكن لنا محاربة الفساد والرشوة والاختلاس إذا كان المجرم يعرف تماماً أنه بريء بمجرد حفظ واهم لبعض أجزاء القرآن الكريم قبل أن يشمله العفو على افتراض نفوذ الحكم ونفاذه. اليوم لم يعد هناك من مدخل إلى مؤسسة الإصلاح إلا عبر دفن مؤسسة الفساد. أولى خطوات الإصلاح الحقيقي أن نبدأ بدراسة وضع هيئات الرقابة المختلفة في البنية الإدارية وانتهاء بالوسيلة التي تتبعها هذه الهيئات في فضح المتورط على رؤوس الأشهاد. ونحن هنا لا نشكك أبداً في أدوار هذه الهيئات الرقابية المختلفة ولكننا معها نفتقد الثقة في أنها تمتلك القدرة على المكاشفة والمصارحة وتفتقر القدرة أيضاً على الوصول القانوني الصرف على قلب مؤسسة الفساد. أولى خطوات الإصلاح أن تنفصل هذه الهيئات الرقابية عن الجهاز الإداري الوطني الضخم لتكون مؤسسات مستقلة في البناء الإداري وأن تعطى الصلاحيات الواسعة للمحاسبة وأن تخضع هذه الهيئات قبل كل شيء إلى المحاسبة حين نكتشف أنها قصرت في دورها الإشرافي. لقد كشفت مأساة جدة أن هذه الهيئات الرقابية مجرد ردة فعل بعد الحدث وحينها بدأت تتحفنا بالأرقام الهلامية دون أن تستطيع أن تصلنا بالخيط الأول أو الأخير إلى قلب الأسماء والأفعال التي ابتدأت هذه المأساة منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود. أولى خطوات الإصلاح أن نعيد بالكامل هيكلة هيئات الرقابة المختلفة التي لا يعرف المواطن عنها في المجموع إلا أنها هيئات مراقبة لدفاتر الحضور والانصراف ومراقبة الدوام والإجازات وإذا كان بينها من يشكك فيما قلت فليبرهن مشكوراً بحالة واحدة طوال كل تاريخها الإداري يثبت فيها أن المواطن، بسيطاً كان أو معقداً، قد اطلع على حالة واحدة من حالات ضبط الفساد والرشوة والتزوير والاختلاس واستغلال النفوذ وسرقة المال العام وتسويف المشاريع. ثاني خطوات الإصلاح أن نلزم مجالس المناطق المختلفة بتشكيل لجان معلنة بالأسماء للعمل مع هيئات الرقابة المختلفة في مراقبة الجنح وكبح الفساد ومساءلة هذه الهيئات واستباق حالات الفساد الواضحة. ثالث خطوات محاربة الفساد والرشوة والاختلاس أن نفضح على رؤوس الأشهاد كل هذه الأرقام العبثية التي تتحدث عنها إضبارات الأجهزة الرقابية المختلفة وأن ننبش من بين كل الأوراق صور هؤلاء وأسماءهم الرباعية وأن ننشرها على الملأ في الصحيفة الرسمية كي يعرف الجميع خاتمة الطريق قبل أن يبدأ. لا يمكن بعد اليوم أن يظل المجرم مجرد رقم مستتر أو فاعل مبني للمجهول. لا يمكن للرقابة أن تكون لها الهيبة إذا كانت هي نفسها الغطاء الذي يحمي كرامة من لم يحترم كرامة المجتمع ولا يمكن للرقابة أن تحظى بالاحترام إذا كانت هي أولاً من يحترم حقوق المجرم في الإخفاء والتستر.