لقد سُحر مستشرقو الغرب بما كان يتصف به الرجل في جزيرة العرب من شجاعة وكرم ومروءة وأمانة، فطفقوا يدوِّنون تلك المآثر التي لا نزال نقتات عليها ونَمَت في صلب وجدان الشخصية العربية.. عجيبة تلك الشخصية العربية التي كونها الماء والنار؛ فهم محبون إلى أبعد حد وغاضبون إلى أبعد حد! سلام بارد كريم على من سالمنا ونار حارقة على من حكّ أنف الواحد منّا، وعلى من يفكر في النيل من الشخصية العربية أن يدرسها جيداً قبل أن يراوغ ويحاور ويداور ويخادع!هذا ليس كلاماً مرسلاً أو إنشاء بقدر ما هو نتاج بحث أكاديمي موضوعي وكبير، بعيداً عن الذاتية والشوفونية. بما أقرته علوم (الأنثروبولوجي) بأن الشخص ابن بيئته، فماذا تركت الصحراء في شخوصنا وجيناتنا المتوارثة؟! هذه هي البيئة المتضادة بين الصحراء والواحات، بين الرمال والجبال الوعرة، وبين غابات غنَّاء ومصائد، بين شدة المناخ واعتداله، كلها متضادات هي ما شكلت الشخصية بين هذا وذاك، بين نار وبرد، حرب وسلام، استقرار وهجرة، وتجول بين المراعي ومنابع الماء، عشق الصحراء والبساتين وعشق الصيد والفلاة.. لقد وفد كثير من الرحالة الغربيين إلى الجزيرة العربية، فلقد زار جنوب الجزيرة العربيّة المستشرق الدانمركي"كارستن نيبور"سنة 1761م، وجاء الفرنسي: "جوزيف توماس آرنود "سنة 1843م، والفرنسي "جوزيف هاليفي، سنة 1869م، والنمساوي" إدوارد جلازر" سنة 1882م. وزار شمال الجزيرة العربية البريطاني"تشارلز دوتي" سنة 1877م، والفرنسي" تشارلز هوبر" سنة 1884م، والفرنسيان"جوسن" و"سافيناك" سنة 1907م، والإنجليزي" أويس موسل" سنة 1910م". ثم ما كتبه توماس إدوارد لورنس والملقب ب (لورنس العرب) في كتابه الأعمدة السبعة. فكتبوا تاريخاً وحضارة، فدونوا، ودرسوا، وفهموا طبيعة هذه الأرض، وبالتالي ما سوف تنضح به هذه الشخصية التي هي حليب بيئتها، نارها ورمادها ونسيمها العليل وسلسبيل مائها كلها تشكلت في أيقونة واحدة، هي نحن ذلك الهجين! كتبوا لنا شهادات للتاريخ لا ندَّعيها نحن، بقدر ما شهدوا هم أنفسهم به في علم من أندر العلوم وأغلاها (علم الأنثروبولوجي). وكان من بينهم الرحالة (ويلفريد ويثيسيغر) وذلك في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، والذي نتج عن رحلته كتاب" الرمال العربية"؛ فبالرغم من أنه كان لا يلقى ترحيباً من قبل أبناء الجزيرة لكونه غريباً عن الديار العربية في بداية رحلته، إلا أنه أحبهم، لما وجده في الشخصية من تكوين نادر وعجيب! وقال عنهم ذلك الرحالة البريطاني في كتابه الرمال العربية:"عندما كنت مع العرب كنت أتمنى فقط أن أعيش كما يعيشون، وبما أنني رحلت عنهم الآن فإنني مطمئن إلى أن مجيئي إليهم لم يغير من نمط الحياة التي كانوا يحيونها، لكنني أشعر بالأسف لأنني أدركت أن الخرائط التي وضعتها ساعدت آخرين – ربما تكون لهم غايات أخرى – في أن يروا تلك البلاد ويفسدوا أهلها الذين أضاءت روحهم الصحراء، ذات مرَّة كشعلة من لهب"! فقد أشفق عليهم من أي تأثر حتى لو كان من شخصه!". لقد سُحر مستشرقو الغرب بما كان يتصف به الرجل في جزيرة العرب من شجاعة وكرم ومروءة وأمانة، فطفقوا يدوِّنون تلك المآثر التي لا نزال نقتات عليها ونَمَت في صلب وجدان الشخصية العربية، فيقول المستشرق الألماني"كارستن نيبور" حينما كان يجوب أرض الجزيرة وتعرَّض لقطاع طرق، وكان يحتمي بالعربي ليس فقط كخبير بدروب الصحراء وإنما من أهوال الطريق وقطاعها وكخبير بدروب الصحراء: "أغراضي التي منها أربع ميداليات إضافة إلى ساعتين قيمتين، استلمتها.. في حلب من الرجل العربي الذي ائتمنته، وهذا من شأنه أن يؤكد ما هو معروف عن النزاهة العربية كسمعة منتشرة عن العرب في أوروبا." وقد سجل ويلفريد ملامح كثيرة عن حياة أهل الجزيرة في ذلك الوقت والتي تعتبر من أهم ملامح الشخصية العربية فيقول : "كان البدوي دائماً إما كريماً جداً أو بخيلاً جداً لدرجة لا تصدق، إما صبوراً للغاية أو منفعلاً سريع الغضب، إما شجاعاً وإما جباناً، وعلى الأرجح لا يوجد شعب أو مجموعة عرقية في العالم يمكن أن تجمع هذا القدر من الصفات المتضادة في ذات الفرد وبمثل تلك الدرجة من الحدة والهدأة" . ويبدو أن ويلفريد لم يخض في أثر البيئة على الشخصية العربية في الجزيرة العربية، ولم ينظر إلى ذلك العشق في ذواتهم للنار وللمطر، فهم لا يحيون دون النار التي توقد على مدار اليوم والليلة ويستمدون انسهم منها، وفي الوقت نفسه لا يحيون دون المطر فباستثاء أنه مصدر عيشهم إلا أنهم على المستوى الوجداني يحيون في نشوة بالغة لحظة هطول المطر. هذا المناخ البيئي هو ما أنتج هذين التضاد في الشخصية العربية كما أنها تنامت في جيناتهم المعاصرة. فحينما كان ويلفريد يصطحب معه رجلين عربيين بجِمالهم وذخيرتهم، كان يجد فيهم الحب والمودة وهما "سالم ابن كبينه الراشدي، وسالم بن غبيشة"، وكانوا يطلقون عليه اسم "مبارك ابن لندن"، وهما من اخترعا له هذا الاسم. فكان يقول ويلفريد عنهم: "إنه من السهل استفزازهم واستثارتهم، ولكن حينها سيكون الخطأ خطأه، لا خطأهما". كما أن الإيمان وقوة العقيدة هو السمة الرئيسية في نفوس أبناء هذه الأرض، يعشقون أرضهم فيحبون محبيها ويعادون معاديها، معاداة الروح للروح والنفس للنفس إلى حد يجعلهم لا يتناولون الطعام مع أي منهم على غير ذلك، كما أن قوة العقيدة مكنتهم من الصمود في تلك الأجواء التي كانت شديدة الشراسة على الذين على غير تلك السمة، فيقول ويلفريد: " كان دليلنا الذي يعرف دروب الصحراء، كان يمشي ويرفع يديه بالدعاء ويتلو آيات من القرآن الكريم. لقد كان إيمانهم بالله قوياً جداً، وربما كان ذلك هو العامل الرئيسي الذي منحهم القدرة على العيش والبقاء في تلك البيئة القاسية" . ولذا تكونت الشخصية من هذا الهجين من النار والمطر، وعجيب جامع الضدين... في شخصه نار ومطر. إن قوة شخصية نادرة بهذا التشكيل، لم يستطع العدو اختراقها في ضوء الفتن والمحن والاختراقات والتدجين، ولذا اخترع طرقاً ومسالك أخرى، وهي تفتيتنا من الداخل من ذواتنا ومن ذات الشخصية نفسها تتفجر على ذاتها لأنها عصية صعبة المراس على أي فعل خارجي، فهل نعي ذلك ونفهم؟!