في حارتنا ونحن صغار وفي تلك المنازل المتلاصقة التي لا يفصلها عن بعضها سوى جدارن قصيرة نستطيع القفز عليها والانتقال إلى البيت الآخر.. هذه البيوت تكاد تسمع ما يجري داخلها.. فما بالك لو ارتفعت الأصوات فجأة بخناقة بين واحدة وجارتها ولا يعني هنا السبب فقد يكون سبباً تافهاً جداً ولا يستحق ارتفاع الأصوات وهذا الردح المجاني.. والواقع أن الردح تخصصت فيه مجموعة من النساء كقدرة خاصة لا تستطيع أخريات أن تضاهيهن فيه.. لأنه يخضع في ايصاله إلى جانب تمثيلي حيث يرتفع الصوت وينخفض.. من أجل إيصال المطلوب والضرب بيد من حديد على الطرف الآخر، وتستعمل في الغالب الحواس وبالذات اليدين للتصفيق بها من أجل إيصال شتيمة أو سبة أو تذكير بماضٍ قديم.. أو دعس على طرف لم يكن متاحاً. المهم أن أغلب الخناقات أو ما نسميها في جازان "خصمة".. وهي كلمة مشتقة من الخصومة.. تكون في النهار وفي عز القايلة حيث زميلات صغيرات في الابتدائي اختلفن في الفصل.. إحداهما تسارع لتحشي أمها على البنت الأخرى وتشحنها بأنها تعدت عليها أو أهانتها فتنفجر تلك الأم خاصة إن كانت عصبية أو "حارة" وقد تتوجه إلى بيت الجيران في زفة من المشاهدين ولا يهم هنا ان كانت ابنتها ظالمة أو مظلومة.. المهم في الأمر أن الحارة تستعد لخصمة من الطراز الرفيع يسخنها إما قوة الطفلة المعتدى عليها أو المدعية.. أو قوة أم الجانية.. تتنادى الجارات بأن فلانة وفلانة تستعدانا للعب المباراة أقصد الخناقة.. ومن باب اللقافة التي هي من قديم الأزل تترك أغلب نساء الزقاق في حارة الساحل قدور الطبخ وتهدئ الميفا المشتعل وينطلقن لحضور الخصمة بين س وع.. مستعدات للتسجيل والحفظ.. للنميمة به لأيام قادمات.. يصطف الجميع وتنطلق أصوات باهتة ومنخفضة "أقصروا الشر وصلوا على النبي".. جهاليل صغار أو بنات صغار بكرة يتساعدون.. بمعنى يتصالحن.. وأنتن متقبحات من بعض. والواقع أن عبارات التهدئة كانت مجرد تسخين وتشجيع لما ينبغي أن يكون.. وما استعدوا له الناس.. ويأمل الحضور في مباراة ردح من الطراز الأول عندما يكون أحد الطرفين ممن له باع في السب والشتيمة.. وتبدأ المعركة بدون أي فرصة تسخين أو إعطاء الطرف الآخر فرصة للنقاش والتحضير لأنه أخذ على حين غرة.. كنت أقف مع الصغار نتفرج باعتياد وليس بخوف.. والخناقة تبدأبمفردة.. "ربي بنتك أو ربي ولدك" يابلا تربية.. وكلمة من هنا ومن هناك ومن ثم يبدأ تبادل التهم في حالة إن كان الطرفان على مستوى واحد من القوة.. أما إن كان هناك طرف قوي وآخر ضعيف فيستمر القوي في كيل شتائم كارثية أقوى من الرصاص.. واتهامات تدفع الطرف الضعيف والذي لم يعتد على الخصمة إلى الدخول والاختباء وعدم الرد.. وانتظار نهاية الحدث.. أما لو التقى طرفان قويان فتكال شتائم يعاقب عليها القانون وأغلبها بعد أن كبرت وفهمت الأمور كذب وافتراء.. ولكن هي نوع من الضرب العنيف الذي يخيف الآخر.. وفي خضم اشتعال المباراة لا تخلو الأحداث ممن يسخنون طرفاً ضد طرف.. المهم نصف ساعة أو ساعة وينتهي كل شيء وتعود النساء إلى بيوتهن لتكمل طبيخها.. ونعود نحن لنكمل لعبنا أمام الباب.. الأهم أن أغلب الخناقات تجري قبل ان يعود الرجال من اعمالهم.. وتنتهي الخصمة التي استعملت فيها أقذر الاتهامات دون شكاوى فقط.. قطيعة تمتد لأيام وبعدها يتصالحن!!