أدركت من خلال مشاركتي في حلقةِ نقاشٍ حول الإعلام الدوليّ إبّان دراستي في مرحلة الماجستير في الولاياتالمتحدة الأميركية، أدركت جيداً مع غيري من الحاضرين حقيقة القنوات التلفزيونية الخارجية التي تناقش قضايانا الداخلية من حينٍ إلى آخر. وأتذكر جيداً كيف تنبّهت البروفيسورة ديبي أوينز وهي المتخصصة في مجال الصحافة والاتصال الجماهيري، إلى أن غالبية المشاركين في الندوة تمّ ابتعاثهم لدراسة الإعلام والاتصال الجماهيري من الجامعات السعودية، أو حتّى عن طريق برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث؛ حينها قدّمت لنا البروفيسورة أوينز عرضاً مرئياً يحمل في بدايته شعار قناة الجزيرة؛ فطرحت علينا في مستهل العرض سؤالاً حول ماهيّة هذه القناة، شعارها، والدلالات والرموز التي تلتف حول كل شيءٍ ذي طابعٍ فنيٍ يُستخدم عند تقديم النشرات الإخبارية والبرامج الحوارية. فأسلوب عرض شعار القناة وفقاً لما خرجنا به من تحليل، يسحر الناظرين وهو يضرب في أعماق المحيط ليرتد للأعلى وبقوة محدثاً أثراً كبيراً جراء هذه الضربة. الكلّ دلى بدلوه عن القناة وعن بداياتها وحتى عن المواضيع التي تُطرح من خلالها. وما حدث بعدها، أستطيع أن أقول بأنه تحولٌ جذريٌ في النقاش؛ حينما ظنّ الحاضرون بأن الحديث سيستمر حول كمٍ كبيرٍ من الأحداث والمواضيع التي تستهدفها القناة في دورتها البرامجية. فبعدما استمعت الدكتورة أوينز لآرائنا وردود فعلنا تجاه الكثير من الأحداث التي مرّت علينا، بدأت بالحديث عن قصة تأسيس قناة الجزيرة أميركا، وهي إحدى قنوات شبكة الجزيرة التي انطلقت في الولاياتالمتحدة الأميركية عام 2013 بعد صفقة شراءٍ تمّت مع قناة أميركية أسسها ألبرت آل غور نائب رئيس الولاياتالمتحدة السابق. وبالرغم من أن القناة كانت تصل إلى 60 مليون مشترك، راهن الأميركيون على عدم نجاح الصفقة (قناة الجزيرة أميركا)، رغم محاولات العاملين عليها لإقناع الجمهور المستهدف بأنها تقدم صحافة استقصائية ووقائع وحقائق لفهمٍ أفضل للعالم. والجزيرة أميركا التي نالت شهرتها بعدما بثت أشرطة فيديو لزعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، إلا أن حيلتها في البث المخطط لم تنطلِ على الأميركان الذين راهنوا مرةً أخرى على فشل وإغلاق القناة في وقتٍ معلوم رغم الشهرة التي اكتسبتها، وهو الأمر الذي حدث بالفعل بإعلان آل أنستي المدير التنفيذي للجزيرة أميركا بأن القناة ستوقف بثها بنهاية شهر أبريل من عام 2016، بحجة الوضع الاقتصادي في سوق الإعلام الأميركية. ورغم أن حديثي عن حلقة النقاش التي أشرت إليها أعلاه يعود إلى عام 2014، أي قبل إغلاق الجزيرة أميركا بعامين؛ إلا أن البروفيسورة ديبي أوينز التي كانت تدرك حقيقة الأمر، طرحت سؤالاً آخر: كيف لم تنطلِ الحيلة على الجمهور الأميركي؟ ببساطة، الإجابة تكمن في طرح سؤاليْن يجدر على جمهور الإعلام طرحه مع كل ظاهرةٍ اتصالية: من الذي يُموَّل؟ وما هي الأهداف؟ فالبث الإعلامي يثير عدداً من التساؤلات لدى المراقبين بحسب ما يشير إليه المتخصصون في مجال الاتصال الجماهيري، ومنهم الدكتور محمد العطيفي الذي قدّم كتاباً مهماً يحمل عنوان (المضامين الخفية للصياغة الخبرية). هذا الكتاب حصيلة دراسة عملية عنوانها (القيم الإخبارية في القنوات التلفزيونية الفضائية الموجهة للعالم العربية). فظاهرة القنوات التلفزيونية الخارجية، التي تناقش قضايانا الداخلية وتثير البلبلة بين الحين والآخر، ظاهرةٌ تستدعي التوقف عندها. فكم من قناةٍ تمارس هذا الدور؟ تخاطبنا بلغتنا المحلية، تناقش قضايانا باهتمامٍ كبير، تدفع الكثير؛ وهدفها التلاعب بمشاعرنا وتغليف عقولنا لممارسة الدعاية بشتى طرقها وألوانها.