بعد أقل من ثلاثة أعوام، وأكثر من ملياري دولار، قررت شبكة الجزيرة القطرية في الثالث عشر من الشهر الجاري إغلاق قناتها «الجزيرة أمريكا»، مخلفة بذلك أكثر مئات الموظفين بلا عمل، وإغلاق أكثر من 12 مكتبا في أهم الولاياتالأمريكية. وعبر بيان داخلي تم توزيعه على موظفي القناة، أخطر الرئيس التنفيذي لقناة الجزيرة أمريكا السيد آل آنستي زملاءه «أن القناة ستغلق بنهاية أبريل المقبل»، معللا هذا القرار بأنه اتضح أن «نموذج العمل للقناة غير قابل للاستمرار». وعلى الرغم من أن قرار إغلاق القناة الشابة قد أدهش كثيرا من المتابعين لا سيما أن القناة في نظر البعض منهم لم تستوف تجربتها كاملة حتى يبت في حكمها، إذ لم يمض على أول يوم بث لها سوى أقل من ثلاثة أعوام، إلا أن قراءات أخرى قد رجحت في وقت مبكر إخفاق هذا المشروع منذ إعلان شبكة الجزيرة الإعلامية عن عزمها إنشاء قناة تبث من داخل الولاياتالمتحدة تتوجه نحو المشاهد الأمريكي. ولمحاولة فهم هذا الخروج السريع للقناة من ميدان سباق التأثير في الولاياتالمتحدة، ركزت معظم القراءات على الجوانب الاقتصادية والفنية المتعلقة بوضع القناة، وكان من أهمها التركيز على أن أحد أهم أسباب خروجها هو غياب القناة على معظم أنظمة مزودي الخدمات «شركات الكيبل»، أو أن عقودها مع بعض مزودي الخدمات قد قيدتها من الترويج لمحتواها الرقمي على نطاق أوسع، بما في ذلك على موقعها الإلكتروني، فيما ذهبت تحليلات أخرى إلى أن قرار الإغلاق هو تأثر مصادر تمويل القناة بالانخفاض الحاد في أسعار النفط. قد تبدو التفسيرات السابقة معتبرة بحيث لا يمكن تجاهلها، غير أن تفسيرات أخرى تقع في نفس الإطار الاقتصادي والفني قد تشي بعكس ذلك، إذ -على سبيل المثال- فازت القناة بالكثير من الجوائز وحظيت بالكثير من التقدير من قبل مؤسسات وجمعيات مهنية معتبرة داخل الولاياتالمتحدة، كما أنها استقطبت ألمع الصحفيين والإداريين الأمريكيين، وشملت هذه الاستقطابات معظم أهم وسائل الإعلام الأمريكية -التي دخلت الجزيرة إلى أمريكا تحت شعار سننافسهم- مثل CNN و CBC و ABC، بالإضافة إلى استقطاب صحفيين لامعين من نيويورك تايمز وول ستريت جورنال ويو أس توداي. وصلت 61 مليون منزل أمريكي لكن لم يشاهدها سوى 35 ألفا ومما يضاعف فرضية أن القناة أغلقت لأسباب ليست ذات علاقة مباشرة بالعوامل الفنية والاقتصادية، هو أنه على الرغم من عدم تواجد القناة على أنظمة بعض مقدمي الخدمات، إلا أنها كانت تصل عبر مزودي خدمات آخرين إلى أكثر من 61 مليون منزل أمريكي يستقبل الجزيزة أمريكا، وهو ما يمثل قرابة 53 % من مجموع المنازل الأمريكية، لكن المفاجأة هو أن متوسط معدل مشاهدات القناة لم يصل -في أحسن أحواله- إلى أكثر من 35 ألف مشاهد في أوقات البث الرئيسية. ووفقا لتقرير نشرته صحيفة واشنطن بوست عن القناة، فإن مؤسسة الأبحاث نيلسن كشفت أنها كانت تعاني عند تقديم تقديرات بخصوص أعداد مشاهدات قناة «الجزيرة أمريكا» لأن العينة دائما ما تكون صغيرة جدا؛ في إشارة إلى التضاؤل الهائل في أعداد المشاهدين؛ بحيث كان من الصعب إيجاد مشاهدين لها لاستطلاع آرائهم. الجزيرة أمريكا ناءت بإرث الجزيرة عربي غير أن جوانب مهمة عن الأسباب المحتملة لإخفاق القناة تبقى جديرة بالقراءة، كتحليل ما إذا كانت الجزيرة أمريكا قد تأثرت بالإرث التاريخي للتعاطي الإعلامي لشقيقتها قناة الجزيرة عربي التي لم تكن كثير من تغطياتها تروق للأمريكيين ساسة وأفراد، إذ ترسخ شعارها وعلامتها التجارية في أذهان كثير من الأمريكيين كرمز حاضن للإرهاب والجماعات المتطرفة. إبان حرب أفغانستان، كانت الجزيرة اللاعب الوحيد المتمكن بين كل وسائل إعلام العالم التي تبث من مواقع لم يكن يوجد بها أي مراسل إعلامي، حتى وصل الأمر بكثير من كبريات وسائل الإعلام العالمية إعادة نشر ما تنشره الجزيرة عن الأحداث في تلك المناطق. لكن هذه الميزة رأى فيها كثير من المحللين والسياسيين لاسيما في الولاياتالمتحدة أنها عائدة إلى احتفاظ القناة بعلاقات جيدة في أوساط الإرهابيين كطالبان والقاعدة، وهم من سهل لها هذا التواجد الحصري. ويعزز هذه الدلالات لدى هذه الشريحة، احتفاظ القناة بما يشبه الحق الحصري في بث تصريحات ومقابلات وتقارير مع رموز وأفراد الجماعات المتطرفة كالقاعدة وطالبان؛ ومن أهمها مقابلتها الحصرية مع زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، ومساعده أيمن الظواهري وغيرهما. وبعيد دخول أمريكا للعراق عام 2003، استمرت قناة الجزيرة العربية في إثارة حفيظة أعضاء إدارة الرئيس جورج دبليو بوش حول تغطيتها لأحداث المنطقة، فشنوا سهام النقد إليها، لا سيما حول تغطيتها للوجود الأمريكي في العراق. عندما قررت إدارة بوش الابن إطلاق قناة الحرة، علق الرئيس الأمريكي بأن القناة ستساهم في مواجهة «مروجي الدعاية والكراهية» في المنطقة؛ في إشارة إلى قناة الجزيرة. وتبدي هذه السياقات أن الجمهور الأمريكي ربما يكون من أكثر الشعوب التي لها تاريخ مثير من المواقف المحملة بالدلالات النفسية والتصويرية تجاه «شعار» شبكة الجزيرة عبر كثير من المحطات والأحداث السياسية، حتى بات شعار الشبكة بغض النظر عن توجهات قنواتها المختلفة محل توجس ومساءلة دائمين لمجرد ارتباطه الشكلي المباشر بقناة الجزيرة عربي. لقد بدا واضحا حتى في أوساط كبار الإعلاميين الأمريكيين الذين انضموا إلى قناة الجزيرة أمريكا، أن لديهم شعورا مبدئيا بأن القناة ستحاكم على إثر التصورات المبنية في أذهان الجمهور الأمريكي عن قناة الجزيرة عربي. قبيل إطلاقها في العام 2013، وبعد تركه لسي إن إن، علق المذيع الاقتصادي الشهير علي فلشي «نتمنى من الجمهور أن يمنحنا فرصة عادلة قبل الحكم على توجهات القناة»، في دلالة واضحة أن هناك إدراكا للتأثير المحتمل لقناة الجزيرة العربية على شقيقتها الجديدة.