قديماً، قيل إن العقل السليم في الجسم السليم. وقديماً أيضاً قال العلماء إن المرء يحيى بأحاسيسه ويُعرف بها. الإحساس، كمفهوم، أبعد مدى مما اعتاد التلامذة على تعلمه في فصول التربية العامة. وهو يتجاوز المفاهيم الكلاسيكية التي قال بها علماء النفس، الذين نعرفهم. الإحساس السليم ركن مكين في قوام الشخصية وصلابتها، ومن دونه يفقد المرء توازنه، وتتيه رؤيته، ويضطرب سلم أولوياته في هذه الحياة. وما هو أبعد من ذلك، يُعد الإحساس السليم لدى المرء، إحدى ضرورات التعايش داخل المجتمعات، واستتباعاً أحد ضرورات استقرارها. ومن هنا، يعتبر شيوع هذا الإحساس لدى الأفراد ركناً من أركان الأمن القومي للدول والشعوب المختلفة. هذه قضية لا تزال غير واضحة، أو غير متبلورة، حتى اليوم، في الدراسات الاستراتيجية والعسكرية، ذات الصلة بالأمن ومدارسه. وقد تكون قضية المستقبل لدى باحثي الأمن القومي. لا توجد، حتى هذه اللحظة، دراسات تأصيلية وافية على هذا الصعيد. ومن تجربتي، كخبير عسكري، وباحث في قضايا الدفاع، كنت دائماً أذكر زملائي بأننا نعاني من انفصام طويل الأمد بين الدراسات الاستراتيجية (العسكرية خاصة) وبين علم الاجتماع البشري، بفضائه الواسع، واستتباعاً الدراسات السيكولوجية ذات الصلة بهذا الفضاء. لقد نجحت دراسات الجغرافية البشرية جزئياً في مد جسور، أو بالأحرى عديد من الجسور، بين العلوم العسكرية وعلم الاجتماع البشري. وشيئاً، فشيئاً، باتت الجغرافية البشرية مقرراً ثابتاً في الكليات العسكرية العالمية. ويعود لهذه الجغرافية، بالتوازي مع الجغرافيا الطبيعية، الفضل الكبير في نشوء علم جديد (أو لاحق) هو الجغرافيا العسكرية، التي تعرف أيضاً في بعض الأدبيات بالجغرافيا الحربية، والتي اعتاد العلماء على النظر إليها كجزء ثابت ومحوري من الجيوبوليتيك العسكري. إن العلاقة بين الحس السليم والأمن القومي هي علاقة ذات صلة بجذور الجذور. أو بقضايا ما بعد المرتبة الثانية -كما في التعبير التقليدي المتداول في الأدبيات العسكرية. ولنعط مثالاً توضيحياً بسيطاً، إذا كانت هناك أزمة حليب في منطقة ما، فقضايا المرتبة الثانية تتجه للبحث في أزمة الماشية. أما ما بعد قضايا المرتبة الثانية فتبحث في التنمية الزراعية العامة، بما في ذلك المراعي الطبيعية والصناعات العلفية وما إلى ذلك. إن الحس السليم، كما سبق وأشرنا، هو ضرورة من ضرورات قوام المرء واستقامة شخصيته. وحيث إن الظواهر العامة تتشكل من الشيوع المتزايد، والمتواتر والمنتظم، لحالات أو سلوكيات معينة، فإن الحس السليم على المستوى الجمعي هو نتاج تبلوره على المستوى الفردي. وحيث إن هذا الأخير يُعد نتاجاً تربوياً، بموازاة كونه تكويناً فطرياً، فإن سيادة الحس السليم وشيوعه تمثل إحدى نواتج التربية، أو إحدى مخرجاتها المعنوية. وهي تعد بالتالي نتاجاً لسياسات تربوية بعيدة المدى. وبهذا المعنى، يعتبر شيوع الأحاسيس السليمة، البناءة والموجبة، قضية وطنية مكتسبة، أو متولدة، وليست محض صدفة. اليوم، دخلت مفاهيم الأمن القومي مرحلة تاريخية جديدة، أو لنقل مرحلة إعادة تعريف استراتيجي، بحكم منظومة واسعة من التحديات الطارئة، التي باتت تهدد البشرية، في أقاليمها وقاراتها. في ضوء هذه الحقيقة، بات من الضرورة بالنسبة للأمم كافة الاعتناء بكل ما من شأنه تعزيز روافد أمنها. إن دول العالم المختلفة تبذل اليوم كل ما تستطيع لبلورة مقاربات شاملة لأمنها القومي، تلحظ جميع العناصر والمؤثرات، المباشرة والضمنية. وبالنسبة لكافة المجتمعات، فإن سيادة الأحاسيس السليمة والبناءة، التي تحترم الآخر، وتقر بحقه في التباين والاختلاف، وتؤكد مبدأ التآخي، والعيش المشترك، بين الأقوام والملل والأعراق، يُعد مكسباً كبيراً لحاضرها ومستقبلها. إنه قوة هائلة لخلق الأمن والاستقرار وإدامته.