من المعروف أن المجتمعات المتحضّرة تؤمن تماماً بالشفافية الاجتماعية، التي يمتثل لها أفراد المجتمع صغيرهم وكبيرهم بكل تلقائية وقناعة، فتجد قناعاتهم الشخصية تحكم تصرفاتهم وعلاقاتهم بالآخرين دون مواربة أو إحراج. إنها كالعقد الاجتماعي الذي تتطابق فيه السلوكيات اليومية مع الفكر الخاص بالفرد، وذلك نتيجة للحرية الفردية الاجتماعية، التي لا تعترف إلا بلغة القانون المنظّم لعلاقة الفرد بالآخرين وبالمجتمع الذي يعيش فيه، وما سوى ذلك من تسلّط أو وصاية أو مجاملة للمجتمع هو أمر مرفوض. أما المجتمعات المتأخّرة حضارياً، فلا تؤمن بالشفافية الاجتماعية ولا بالفردانية، كطريقة للحياة المستقلة والكريمة للفرد، فالطفل في هذه المجتمعات يكبر ولديه كتاب إلزامي غير مطبوع تتزايد صفحاته مع العمر، يجب أن يحفظ بنوده عن ظهر قلب، ويلتزم بها، عنوانه "العيب الاجتماعي". وفي هذه المجتمعات أيضاً، على الجميع أن يخضع لتلك القيود الاجتماعية الصارمة طوعاً أو كرهاً، وعلى الفرد غير المقتنع بها التظاهر على الأقل بخضوعه وقناعته التامّة بتلك القيود، فيما يمكن تسميته ب"الزيف الاجتماعي". ولذلك فالعلاقة بين الأفراد والمجتمع هنا تبدو مضطربة، والقوانين الاجتماعية تتّخذ فيها شكلاً من أشكال الاستبداد والتقييد القمعي للفرد، وهذه القوانين الاجتماعية غير المكتوبة وغير النظامية، يتمّ سنّها بالتوافق عن طريق فئات متغلّبة من المجتمع دون غيرها، ومصادرها تأتي غالباً من التراث الاجتماعي المهيمن على عادات الناس وحياتهم قديماً، الذي قد يكون عفا عليه الزمن، والذي لا يلقي بالاً للتطورات والتغيّرات والتحديثات التي تطرأ على المجتمع بسبب الوعي والتعليم والتحضّر. هذه السطوة الاجتماعية التي لا ترحم، تراقب تصرفات الأفراد ضمن تلك الأعراف الاجتماعية، وتؤدي في النهاية إلى ظهور ذلك الزيف الاجتماعي بكل صوره بين أفراد المجتمع الواحد، كواحدٍ من أهم الآثار الهدّامة، التي يمكن رصدها بسهولة في المجتمعات المتأخرة حضارياً. فالفرد قد يمتلك الكثير من القناعات الاجتماعية المتقدّمة في العادات والعلاقات، والتي اكتسبها عن طريق التفكير والتعليم والاحتكاك والانفتاح على التجارب الاجتماعية المتقدّمة والنزعة إلى التحضّر، ولكنه في الوقت نفسه، لا يمكن أن يبوح بها للمقرّبين إليه فضلاً عن الآخرين، وذلك خوفاً من الانتقاد اللاذع ومواجهة المجتمع وفقدان الثقة فيه كفرد اجتماعي مثاليّ، مفضّلاً البقاء تحت مظلة الوصاية الاجتماعية السائدة، وإن كان غير مقتنع بها، عن الخروج من تحت عباءتها، وتعريض نفسه للتهجّم والتهكّم والغمز واللمز، وربما للقطيعة والنفور منه، وهو بذلك لا يقوى على مجرد التصريح بقناعاته فضلاً عن تغيير عاداته وسلوكياته الاجتماعية إلى الأفضل، وأنا هنا أتحدّث عن الرجل والمرأة في المجتمع على حدٍّ سواء. والأمثلة على ذلك في مجتمعنا كثيرة، ولا سبيل إلى تعدادها أو حصرها، وسأكتفي هنا بالإشارة إلى بعضها: كالزواج من خارج نطاق العائلة والقبيلة والمنطقة، وتقنين العلاقات الاجتماعية وحضور المناسبات غير المرغوب فيها، والحريّة في اختيار الهيئة والملابس المفضّلة واللائقة، والالتزام بالعادات السلوكية والغذائية الصحيّة، وممارسة الرياضة أو الفنون الجميلة بحريّة، والسماح للبنات بدراسة الطب والهندسة والمحاماة وغيرها، والعمل لاحقاً في هذه المجالات المهمّة للمجتمع، وانخراط الشباب الراغب في المهن الفنّية كالسباكة والحدادة والنجارة وغيرها ذات الدخل الجيّد، والالتزام بوسائل السلامة والأنظمة المرورية أثناء قيادة المركبة، والقائمة التي لا تخفى على الجميع تطول وتطول.. إن الضابط في الحكم على المظاهر الاجتماعية المسموحة والممنوعة يجب أن يرتكز بالأساس على القناعة الفردية والذوق الاجتماعي الذي لا يشذّ عن الأنظمة والقوانين السارية. وعلى العكس من ذلك، فإن تبنّي الفرد في مجتمعاتنا لتلك المظاهر الاجتماعية الواردة في الأمثلة السابقة وغيرها، قد يعرّضه بشكل أو بآخر للوبال الاجتماعي، فيضطر مُرغماً للّجوء إلى الزيف الاجتماعي، برفضه لكل ما يرفضه السائد في المجتمع، بغضّ النظر عن رأيه الشخصي المخالف أو قناعاته المكبوتة. ويمكنني الإيماء إلى أن هذه الثقافة الجامدة بدأت بالتحسّن مؤخراً، وأصبح النقاش حولها متاحاً بين أفراد المجتمع وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما يبشّر بإمكانية التقدّم إلى الأمام ولو قليلاً، بعد أن ركن المجتمع زمناً طويلاً إلى تلك الثقافة الأحادية الجانب، التي لم تكن تسمح بأي تنوّع اجتماعي حقيقي، يصبّ في النهاية في مصلحة الفرد والمجتمع نحو التحضّر والرفاه المنشود. * طبيب نفسي