يتسع مفهوم الوصاية الاجتماعية ويمر بأكثر من منعطف ضبابي، و هذا ما يجعل ذهن المتلقي يذهب إلى أكثر من وجهة حينما يقرع هذا اللفظ مسامعه للمرة الأولى، وليست القضية في أن هذا المفهوم مراوغ بطبيعته، وإنما لأن مجتمعنا العربي يؤمن بالوصاية بطبيعة تكوينه ونفسيته التي رسخ فيها مفهوم وصاية القبيلة منذ عصورها الأولى.. في وقت رضيت فيه الشخصية العربية -على ما فيها من طموح وشمم- أن ترتمي في حضن القبيلة "الأم والوطن" وأن تذوب من خلالها كل معالم شخصية الفرد إلى الدرجة التي سلم لها أفراد القبيلة زمام عقولهم وأفكارهم: وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد ومن هنا فإن الحديث عن الوصاية في تراثنا ذي مزالق مربكة ويحتاج إلى أن يستقصي فيها الباحث فيفرق بين وصاية راشدة مقبولة يحتاجها المجتمع من أجل تماسك أسسه، ولأهميتها في سموه ورقيه، وبين أخرى استغلت نفوذ تمدد جذور الأولى فانتشرت في مجتمعنا القديم بعد أن صنعتها عقول نفعية في غفلة من الزمن لخدمة مصالح وقتية أو لإرضاء نزعات مرضية ذاتية؛ ثم وجدت قبولا وتسليما حتى هذه اللحظة، فداهمتنا مرة تحت وطأة بعض العادات والتقاليد التي لو فتشنا فيها فلن نجد تحتها شيئا ذا قيمة، وهي بالتأكيد ليست من عليا مثلنا ولا تقاليدنا، وأحيانا ربما روج لهذه الوصاية خلف ستار ديني، والدين منها براء. وفي كل حال؛فإنه لا يمكن لنا أن نؤطر حدود هذا المفهوم في تعريف مقتضب لأنه يتسع فيشمل فضول الآخرين وتطفلهم وتدخلهم-دون سبب مقنع- في شأن غيرهم من الراشدين الذين يملكون -وحدهم - حرية تقرير مصيرهم واتخاذ القرارات في كل صغيرة وكبيرة. وفي الشريعة الإسلامية السمحة آثار ترفض -صراحة- كل الوصايات التي تفرض على الفرد ما لم تكن وصاية راشدة، وهذا الرفض يأتي حتى مع حسن نية الموصي وسلامة غايته، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم) : (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، وفي هذا الأثر إشارة رائعة إلى النهي عن تطفل أفراد المجتمع في شؤون لا تتعلق بهم، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم منع الوصاية غير الراشدة ولو كانت من أولى الناس بها وهو الأب فقد أخرج النسائي عن عائشة (رضي الله عنها) : "أن فتاة دخلت عليها، فقالت: إن أبي زوجني من ابن أخيه يرفع بي خسيسته، وأنا كارهة، قالت: اجلسي حتى يأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبرته، فأرسل إلى أبيها، فدعاه، فجعل الأمر إليها، فقالت: يا رسول الله، قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء، ومواقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إقدامه وإحجامه تدل بوضوح على كره الوصاية غير الراشدة، ولا يمكن لنا أن ننسى (متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!!) فمن المؤكد أن الاستعباد هنا ليس الرق بمفهومه المادي بل أبعد من ذلك، فالحرية التي كان ينشدها عمر رضي الله عنه فيها هدم لكل وصاية عرقية أو مذهبية أو تسلطية -أيا كان نوعها!! ومن المهم أن نشير إلى أن بعض الوصايات التي قد ننتهك حريتنا وتغتال خصوصيتنا تأتي - أحيانا- ممن نحب قبل أن يمارسها معنا الغرباء؛فمشكلة بعض الأوصياء أنه مصاب بأعراض أطلس، حيث يعتقد المصابون (بظاهرة أطلس أنهم وحدهم عليهم حل جميع المشكلات، ويضعون-غالبا- احتياجاتهم الخاصة في المقام الأخير مثل أطلس الذي يحمل العالم على كتفيه!! فهم يرهقون أنفسهم بحمل إصلاح مشاعر وتصرفات الآخرين، لكنهم يؤذونهم من حيث لا يشعرون، ويسلبونهم إرادتهم وحرية تفكيرهم)، وهذا ينطبق تماما على بعض الآباء المفرطين في ملاحظة أبنائهم والذين يمارسون نوعا من الوصاية القاسية التي تندس خلف حبال الحب التي تخنق هؤلاء الأبناء فتردي شخصياتهم وتفقدهم الثقة بأنفسهم!! وفي جانب آخر نجد أن مجتمعنا يتفرد بين المجتمعات العربية، وخاصة في المدن الصغيرة والقرى بخصوصية مشاركة الفرد للآخرين من حوله في الآراء والعواطف والملاحظات، وعلى ما في هذه المشاركة من إيجابيات فإنها تتحول في بعض جوانبها إلى سلاح ذي حدين، فيصبح هذا المشارك رقيبا يتتبع كل كبيرة وصغيرة، وتتسع حدقة هذا الرقيب حتى تسد منافذ الهواء، فتراه يطرح رأيه الذي يشبه الوصايات في مستقبل أبنائك وبناتك، وفي تجارتك، وفي تصرفاتك كلها، بل يشاركك عقلك إلى أن تضيق ذرعا بمن حولك وبما حولك. و لمعرفة مزيد من أشكال هذه الوصاية في مجتمعنا العربي الكبير، وفي مجتمعنا بشكل خاص التقت "الرياض" بعدد من الباحثين والمفكرين فتحدثت معهم حول أبعاد الوصاية الاجتماعية، وفي البدء تحدث الدكتور عبد الله البريدي (كاتب وأكاديمي) عن دعوته إلى التطبيع مع الوصاية الاجتماعية قائلا: "الوصاية الاجتماعية" مصطلح أو لنقل فكرة ذات حمولة سلبية في الغالب أو هكذا يريد لها بعض المثقفين، والتدقيق في طروحات أولئك يجعلنا نكتشف بأنهم يسعون إلى نفي تلك الوصاية بكافة أشكالها ومستوياتها ؛ لكي يمارسوا بدورهم وصاية على المجتمع، وهم يتوهمون وربما يوهمون غيرهم بأن ما يمارسونه ليس "وصاية اجتماعية" بقدر ما هو تعبئة فكرية ضرورية لتحقيق مشاريعنا النهضوية أو التنموية، وهذا نهج فكري يمارسه بعض المثقفين ممن يعاندون الحقائق، والحقيقة دائما هي الأكثر عناداً والأطول نفساً، فلا يوجد أي مجتمع إنساني دون أن يتوفر على شكل من "الوصاية الاجتماعية" بأدوات محددة وبمستويات معينة قد تقل أو ترتفع وذلك بحسب شبكية النسيج الاجتماعي وتوليفة العادات والتقاليد المتعارف عليها والحدود المقبولة للفردانية والجمعية، والنفس القيادي للرموز الاجتماعية، فالفرد حين "يقبل" الانضمام تحت لواء "مجتمع" معين في عملية "اندماج" تعاقدي تنتهي إلى نوع من "التبني" من المجتمع لأفراده؛ فإن ذلك يعني وإن بشكل ضمني أن ثمة معايير اجتماعية يفرضها المجتمع على أفراده وأن المتوقع من الأفراد درجة مقبولة من الالتزام بالأطر الاجتماعية، مما يمكّن المجتمع من تشغيل مكنة "العيب الاجتماعي"، التي تلعب دورا بارزاً في الحد من التجاوزات الأخلاقية والخروقات القيمية، لاسيما في مراحل ضعف أو غياب الوازع الديني والذوق الجمالي، وهذا مشاهد ومحسوس في كافة المجتمعات الإنسانية،فنحن في المملكة كغيرنا نتوفر على إطارنا الاجتماعي الخاص بنا الذي يفرز نوعا من الوصاية الاجتماعية التي تحرك متاريس العيب الاجتماعي في مفردات ذات دلالات متنوعة غير أنها مكثفة حول محور "الضبط الاجتماعي" للسلوك الإنساني ومن ذلك ما نسمعه من أمثال: ولد حمولة، بنت ناس، وش يقولون عنا، واخزياه ...، هذا النوع من الوصاية الاجتماعية المتكئ على نظام العيب الاجتماعي يفلح في جعل شريحة كبيرة من أفراد المجتمع تحجم عن اقتراف أعمال لا أخلاقية، وصلت إلى درجة من "التطبيع القيمي" مع الذات بحيث أصبحت تلك الأعمال غير مستهجنة أو غير مستقبحة من قبل أولئك الأفراد، ولكن "العيب" يلعب دورا تعويضيا في اللحظة المناسبة، فيضغط "العيب" على ما يشبه "زر الاحتياط الأخلاقي" الذي لا يعمل إلا في حالات طارئة كهذه، فماذا تكون النتيجة؟ يحجم أولئك الأفراد عن "اقتراف" الأعمال المستهجنة والمستقبحة لفترات زمنية، وربما يتوفرون على طاقة أخلاقية وبكميات كافية فيما بعد تجعلهم غير محتاجين لاستخدام ذلك الرصيد الاحتياطي الأخلاقي. ويضيف البريدي: إذن نحن نحتاج إلى نوع من التطبيع المشروع مع "الوصاية الاجتماعية" بحدودها الصحيحة ؛ التي لا يجعلها تستبد فتلغي خصوصية الآخرين أو تشنع بحق تمتعهم في التحرك في فضاءات الاختيارات الشخصية التي لا تتمرد على المنظومة القيمية و لا تخدش الذوق العام، ويقتضي هذا قطعا الخروج عن نسق العادات والتقاليد المجحفة في حق بعض الفئات أو الشرائح أو الطبقات دون سند أو مبرر غير الإرث الاجتماعي، ويعني هذا إننا بحاجة لا إلى إلغاء الوصاية الاجتماعية كفكرة محورية في الفضاء الاجتماعي بل إلى غربلة مفرداتها وفحص أدواتها والتنقيب في وظائفها في عملية نقدية صارمة، تنتهي بنا إلى قبول التطبيع مع نسخة معتدلة من الوصاية الاجتماعية ذات الطابع الإنساني في إطار ثقافتنا العربية الإسلامية. أما الدكتور عبد الله بانقيب (أكاديمي) فعلل أسباب الوصاية الاجتماعية بقوله: لعل النزوع إلى المثال الأنموذج الذي يتوق المجتمع إلى تحقيقه هو الذي يدفع البعض إلى ما نسميه وصاية المجتمع، ولكن المسألة من وجهة نظري متفاوتة النسب فيما يدرج تحت وصاية غير مبررة، وبين ما يجب أن يكون عليه المجتمع من سلوك راشد يرتفع به إلى حد القيمة التي نص عليها الشارع وتواطأ المجتمع السليم على تقديرها، وعدها مؤشرا على صحة السلوك. ويضيف: إن إغفال البعض لهذا التفاوت القيمي لسلوكيات المجتمع يجعله يقع في فخ هذه الوصاية، ومن تلك الإشكالات-أيضا- الخوف غير المبرر من سلوكيات لا ضرر ولا نفع لها، لكنها تستهوي آخرين لممارستها، وفي ظني أن مثل هذه السلوكيات هي ممارسة اجتماعية لا ضير منها، بل قد تحقق إشباعا لرغبات أفراد مستهويها، ولا يجب أن نصادرها بتلك الوصاية غير المبررة. ويضيف: ومن تلك الإشكالات التي تفرض هذه الوصاية في غير حاق موضعها الخوف من مجهول ممارسات جديدة طارئة على المجتمع بحكم ما يشهده العصر من طفرات التحول على أصعدة كثيرة وممتدة دون التريث في تقويمها، ولاشك أن العجلة في التقويم قد تضيع قدرا صالحا تحمله تلك الممارسات للمجتمع فتضيع فرصة الاستفادة منها لما يدفع عجلة النماء الاجتماعي الذي تنشده المجتمعات المتطلعة إلى عيش حضاري أكثر رفعة وسموا. ويتحدث الناقد المعروف الدكتور سعد الدين كليب رئيس قسم الأدب بجامعة حلب في سوريا فيقول: يبدو لي أن مفهوم الوصاية الاجتماعية ملتبس بعدة مفهومات اجتماعية أخرى، مثل الرعاية، والحماية، والأمن - بمعناه الاجتماعي - والرقابة ... وما إلى ذلك من مفهومات. وهي كلها على أية حال، باختلاف منطلقاتها تمثل شكلا من أشكال التدخل الاجتماعي في حياة الفرد وتحد من الحرية الفردية، بقدر ذلك التدخل. وكما هو معلوم، كلما كان المجتمع محافظاً كانت الوصاية الاجتماعية ضاغطة على الفرد وكابحة لحركته وأفقه الشخصي، بل دعني أؤكد أن ارتفاع سوية الوعي الاجتماعي تؤدي بالضرورة إلى انخفاض سوية الوصاية الاجتماعية وكذلك فإن هيمنة ذهنية واحدة أو محدودة على المجتمع تؤدي إلى رفع وتيرة الوصاية، مما يعني أن التعدد في الذهنيات وأشكال السلوك الاجتماعي ينعكس انخفاضاً في تلك الوصاية أي أن مفهوم الوصاية بات من المفهومات التقليدية التي تتناقض والوعي العلمي من جهة، والوعي الديمقراطي من جهة أخرى، لكن في المقابل لا يمكن اعتبار الوصاية بمختلف مستوياتها شراً مطلقاً، إنها كذلك حين تنعكس - وهي غالبا ما تنعكس - قيودا وضوابط وموانع تحد من الحيوية الاجتماعية والفردية معاً. ويرى الدكتور خالد بن فارس أعرج (أكاديمي) أن مفهوم (الوصاية) يتنوع حسب تناول المرء لهذا الموضوع وإن كنا نحاول أن نقاربه مقاربة اجتماعية، فالوصاية تشتد وطأتها في المجتمعات المغلقة وتخف هذه الوطأة حين يميل المجتمع إلى الانفتاح، كما أن المجتمع الأبوي يهيمن عليه نسق الوصاية خلاف المجتمعات الأخرى، ومجتمعاتنا العربية لا تخرج عن هذه الرؤية فالفرد تهيمن عليه قوى متعددة مثل الأب، الأهل والمدرسة و الجامعة ومؤسسات المجتمع، وبالتالي نلاحظ صعوبة قدرة الفرد في الابتعاد عن هذه الهيمنة التي تحميه من جانب، وتكبله من جانب آخر، وبالنتيجة يمكن القول: إن المجتمع القبلي المغلق هو أكثر وصاية على أفراده من مجتمع المدينة المشغول بهمومه ومشاكله الصغيرة، فالضبط الاجتماعي في بلدان الغرب تخف وطأته عن بلد عربي مثلا، وهذا يعود إلى طبيعة البنى الذهنية التي يستمد منها الفرد سلوكياته وممارساته الحياتية. أما الأستاذ صالح السهيمي (كاتب وقاص) فيطرح رؤيته متحدثاً عن تجذر مفهوم الوصاية الاجتماعية في تراثنا القديم، يقول: يظل الفرد وسط مجتمعه جزءًا ومكونا له، وتظل الوصاية الاجتماعية ملاحقة للفرد في العديد من الثقافات الإنسانية، فما بالك بالعربي الذي رأيناه في تأريخنا القديم لا يخرج عن التفكير الجمعي للقبيلة قيد أنملة، ومن يخرج عن هذه الجماعة يوصم بالخروج على المألوف. ولعل المتتبع لهذه القضية قديما وحديثا يرى الجدل بين الفرد والجماعة متمثلا في العذل الذي تصوره العاذلة للزوج أو الأخ أو الأب في شعر الصعاليك بحكم أنهم أفراد انعزلوا عن الجماعة؛ ورفضوا وصاية المجتمع فوصمهم التأريخ بالشذاذ أي الخارجين والشاذين عن فكر الجماعة... ولعل هذا التمهيد يوضح أثر الوصاية الاجتماعية في القديم، أما في العصر الحديث فنجد صورا أخرى لهذه الوصاية كأن يتبنى أحد الناقمين على الجماعة فكرا منحرفا ليظلل به جماعة من الشبان، أو يغرر بهم من أجل التفرقة وكسر طوق التكاتف بين الجماعة... فيكون وصيا يريد بهم الخير - حسب رؤيته - إلا أننا نكتشف أنه يدلف من بوابة الوصاية الاجتماعية إلى التخريب والفساد وإذابة شموع الفرح في قلوب البسطاء... ولعل هذه الصور تكثر وتتعدد بحسب الظروف التاريخية والاقتصادية والاجتماعية. ويرد الدكتور عبد الله المباركي (رئيس قسم الاجتماع والخدمة الاجتماعية بجامعة الإمام) مشكلة تدخل الناصحين في شؤون الإنسان الخاصة، و نمط الرقابة الاجتماعية التي تتابع تحركات الفرد في غدوه ورواحه إلى أسباب منها تركيبة مجتمعنا حيث الأسرة الممتدة؛ إذ ينظر للكبار -دائما- على أنهم الخير والبركة يرجع لهم في المشورة واتخاذ القرار المتعلق بالآخرين لذلك نجد العلاقات في هذا المجتمع البدوي والريفي قائماً -لا نقول على الوصاية وإنما- على الرجوع إلى الكبير لتمتعه بالحكمة التي يعتمد عليها الآخرون، أو لحظوته بمكانة معينة، وحينئذ يرون أن الشاب الذي يتصرف دون الرجوع للكبار قد اعتدى على نسق اجتماعي معين؛ لأنه خالف أهل الرأي والمشورة، أما إذا كان الشخص يتدخل في شؤون الآخرين -دون مبرر مقنع- فهذا مذموم، وليس مجتمعنا وحده من ينبذ هذا، بل المجتمعات كلها تنبذه، ومن هنا نلحظ تردد عبارة "أنت لست وصيا علي"، وعلى كل فهذه القضية لها شقان: إيجابي يدخل في إطار العلاقات الاجتماعية الجيدة، وآخر سلبي وهو ما نسميه الفضول أو التطفل، وهذا الأخير يحتاج إلى بحث ونقاش من حيث حكمنا على وجوده من عدمه، أو وجوده بنسبة كبيرة بحيث يشكل ظاهرة أو مشكلة حقيقية. وعن سبب إحساس أهل القرى أو المدن الصغيرة بأن عين المجتمع أشد ملاحظة في هذه الأماكن أكثر منها في المدن الكبيرة، حيث يشعر ابن القرية أو المدينة الصغيرة أنه "مراقب" دائما، يقول المباركي: سطوة التقاليد الاجتماعية وخاصة القبلية في المدن الصغيرة أو القرى أشد منها في المدن الكبيرة؛لأن التحضر والمدنية لهما تأثير كبير جدا في العلاقات الأسرية وفي استقلال الأسرة، فنجد استقلالية الشاب بزوجته وأطفاله، بينما نجد في المناطق الأخرى أن هذا الشاب حتى لو انفصل عن أسرته الكبيرة؛ فإنه يختار سكنا بجانبهم، وهذا يجعلنا نتلمس الفروق بوضوح، فطبيعة الأسرة في المدن الكبيرة لها تأثير كبير جدا على تقليص وتدني مستوى التدخل في شؤون الغير، لأن المدنية لها دور في إعطاء الفرد الاستقلالية وحرية الاختيار أكثر من غيرها، لكن يظل مجتمعنا بصفة عامة حتى في المدن يختص بوجود الجانب القبلي وكذلك الرجوع للكبير، وعلى كل حال فالتدخل ليس ظاهرة، وليس مذموما دائما ولا مستحسنا دائما، وإنما يذم إذا كان فيه تطفل وفضول أو تعد صريح على الحرية والاستقلالية الفردية دون مبرر، أما إذا كان نوعاً من المناصحة والتدخل الإيجابي فهذا محمود. ويرى الدكتور المهدي مأمون أبشر (أكاديمي،جامعة الخرطوم) أن فرض الرؤية الشخصية على الآخر أمر مرفوض عند الناس عامة وفى مختلف الثقافات الإنسانية، أما التدخل في شؤون الآخر فهو يعتمد على نوع هذا التدخل فبعض التدخل يتم برفق وبعضه عنيف، وبعض التدخل مباشر وبعضه غير مباشر، أما العنيف والمباشر فمرفوضان غالبا، وأما غير المباشر الذي يتحرى صاحبه المداخل الدقيقة فيقبل، وكذلك يعتمد قبول التدخل أو رفضه على نوع المجتمع الذي يقع فيه هذا التدخل؛ فالأوربيون بطبعهم- على ما يبدو - لا يقبلون تدخل الآخرين في شؤونهم كما أنهم لا يتدخلون-اجتماعيا لا سياسيا- في شؤون الآخرين إلا عند الضرورة القصوى. من جهة أخرى رفض الروائي بدر الإبراهيم في روايته "حياة مؤجلة" كل ما عده ضربا من ضروب الوصاية على خيارات الفرد، وقد التقت "الرياض" به هذه المرة ليتحدث عن رؤيته في الوصاية الاجتماعية بلسانه هو لا بلسان أبطال روايته حيث قال: يمكن القول: إن مصطلح (الوصاية الاجتماعية) هو محاولة لتوصيف حالة التغييب القسري لخيارات الأفراد في المجتمع وفرض نمط محدد من التفكير والسلوك عليهم،ويبدو هذا المصطلح في نظر البعض - وبالتحديد من يمارسون هذه الوصاية- اتهاماً كاذباً يهدف إلى إبعاد المجتمع عن أصالته وقيمه،لكن من يمعن النظر في هذه الحالة لا يمكن أن يغفل وجودها وتجذرها في ثقافتنا وممارستنا. ويضيف: تم توظيف الدين والموروث الاجتماعي لتكريس أحادية فكرية تضرب التنوع والتعددية وتُمَكّن فئات معينة من السيطرة على المجتمع وتوجيهه إلى حيث تريد، فشلَّت قداسة الفكرة العقل والتفكير وكان من الطبيعي أن تكون معارضة الوصاية الاجتماعية بمثابة الكفر والإلحاد وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن العامل الثاني الذي ترتكز عليه الوصاية الاجتماعية وهو تغييب الحرية الفردية. إن الفرد ليس حراً في الاختيار بين أفكاره وبين الفكرة المقدسة التي تفرضها عليه الوصاية الاجتماعية.إنه مجبر على اتباع الخيارات التي يفرضها المجتمع عليه دون نقاش،لقد ألغت الوصاية الاجتماعية حق الأفراد في الاختيار وسلبتهم حريتهم وإرادتهم بما جعلهم مجرد آلات مبرمجة لتنفيذ ما يُراد لها تنفيذه. ويواصل: إن إلغاء إنسانية الفرد بما يعني إلغاء حقه في التفكير والاختيار هو ما يجعل الوصاية الاجتماعية تتمكن من فرض ما تريد على أفراد المجتمع الذين لا يملكون بعد تجريدهم من حقهم الطبيعي إلا الانقياد وراء ما تمليه عليهم الوصاية والسير في الطريق الذي يُختار لهم،فمشكلة الوصاية الاجتماعية عدا عن كونها محاولة مستحيلة لإلباس الناس ثوباً من لون واحد هي أنها تفرض خياراً واحداً في التفكير والسلوك مما يجعل المجتمع في حالة من الجمود والتقوقع على الذات في ظل غياب التحديث والتنوع وهذا ما يساهم في جعل المجتمع معزولاً عن حركة العالم وعن حركة التاريخ. ويرى الإبراهيم الحل يكمن في أن "الاقتناع بكارثية الوصاية الاجتماعية وعدم جدواها وتأثيرها السلبي بتعطيل وشل حركة المجتمع هو الخطوة الأولى باتجاه إنهاء هذه الوصاية،لأننا بحاجة إلى تغيير ثقافي يعالج المشكلة من جذورها وينهي حالة القمع التي تتلبس بلبوس الخير والصلاح وتحقيق المصلحة العامة وتتغنى بمعرفة مصلحة الأفراد أكثر منهم! "