د. عدنان بن عبد الله الشيحة الاقتصادية - السعودية يبدو أن الطفرة الاقتصادية قد أدت إلى تغيير المظهر الخارجي للمجتمع من حيث المقتنيات المادية والمشاريع العمرانية واستهلاك الكماليات، ولكن على حساب مستوى التحضر الذي يقع في جوهره احترام قيم القانون والعمل والوقت والاندفاع نحو البحث عن الأفضل وبناء الخبرة. لقد كان الناس فيما مضى تسيرهم منظومة قيم مشتركة ورقابة مجتمعية حاضرة في كل مكان وزمان؛ لأن الجميع مسؤول عن الحفاظ على القيم في صورة سلوك رشيد مشاهد. المبدأ هنا هو أن الأفراد هم المجتمع والمجتمع هو مجموع الأفراد، فلا ينفك الواحد عن الآخر. هذه العلاقة الواضحة التي كانت مترسخة في ذهن الأفراد في المجتمعات القديمة ضمنت التوافق بين احتياجات الفرد والمجتمع، وكونت منظومة القيم المسيرة لسلوك الأفراد النابعة من قناعتهم لتمثل رقابة ذاتية لديهم، وبالتالي أصبحوا عناصر فاعلة في بناء المجتمع ولحمته. هذا التوافق بين المصالح الخاصة والمصلحة العامة هو أساس بناء المجتمعات المتحضرة. فقوة أي مجتمع بلحمته وتوافقه فكرا وميولا وسلوكا، وهذا لا يكون إلا من خلال منظومة قيم متفق عليها تحدد السلوك الصح والخطأ. هكذا كان أفراد الرعيل الأول مقتنعين وملتزمين ومطبقين للإرادة الاجتماعية التي تحقق طموحاتهم وتدعم جهودهم للإنجاز وتشجعهم على الإبداع. لم تكن تلك المنظومة الاجتماعية معطلة عن التفكير الإبداعي أو البحث عن الإنجاز أو المبادرة في عمل الأشياء بطريقة جديدة؛ وإنما كانت سياجا من الخلق الرفيع لضمان أن تكون سلوكيات الأفراد منسجمة مع الصالح العام وتحفظ حقوقهم من التعدي أو الغبن. هذه القيم الحضارية التي مكنت المجتمعات القديمة من مواجهة تحديات الظروف البيئية القاسية وشح الموارد الاقتصادية يمكن اختزالها في الصدق والأمانة والعدل والنخوة والبذل والشجاعة. ولذا لم تكن تلك المجتمعات رغم بساطتها تسمح لمن يريد أن يشذ عن الصف والإجماع العام ويحاول العبث بقيمه الفاضلة، لأن ذلك يعد تعدٍ على كينونة المجتمع وهويته وسر بقائه واستدامته وقوته. هذه القيم الراسخة في عقول ووجدان أفراد المجتمع لم تكن لتتبدل مع تغيرات الزمان والمكان، فظلوا ثابتين يحملونها معهم أينما رحلوا وحلوا ومهما كانت الظروف والأحوال. إن الثبات على المبدأ هو ما يؤكد شخصية المجتمع ويصون لحمته، وهي العلامة الفارقة التي تصنع تميزه وقدرته على المنافسة أيا كان نوعها ومجالها. لقد تغيرت الأحوال وتبدلت الظروف عندما حلت القيم البيروقراطية محل القيم المجتمعية، وأصبحت الإجراءات الإدارية الورقية هي التي تقرر حقيقة الإنسان منذ ولادته حتى وفاته. فلا يعترف بولادته حتى يستخرج شهادة الميلاد ولا يموت إلا بشهادة وفاة، وبين الميلاد والوفاة تقرر البيروقراطية جميع سلوكياتنا وأنشطتنا وتعاملاتنا. هذه البيروقراطيات انتزعت القيم الجميلة التي عاش عليها المجتمع ردحا من الزمان حتى صار الشكل أهم من المضمون. فالعلاقة بين الناس أصبحت مادية جامدة دون مشاعر وأحاسيس وأخلاق. ومما يزيد الطين بلة عندما يكون هناك امتزاج بين القيم البيروقراطية التي تعتمد على الأحكام غير الشخصية والتقاليد الاجتماعية المبنية على العلاقة الشخصية لينشأ تنظيم إداري هجين، ظاهره بيروقراطي حيادي، بينما في الحقيقة يحكمه الهوى الشخصي والمنفعة الفردية والعلاقات العائلية. هذا الفصل بين القيم والسلوك أدى إلى أن نقول ما لا نفعل ونفعل ما لا نقول، ليسعى الكثيرون لأن يكون موقفهم على الورق سليما بغض النظر عن المشروعية وأحقيتهم في ذلك. وهذه السلوكيات التي تتم داخل البيروقراطيات بما تنطوي عليه من استغلال سيئ للسلطة تقود إلى ممارسة الواسطة والمحاباة والرشا واختلاس المال العام. هذا التحول الثقافي من القيم والتقاليد ذات المقاصد الاجتماعية الرفيعة إلى القيم البيروقراطية المستوردة أدى إلى بروز سلوكيات سلبية. والسبب وراء ذلك أنه لم يتم استيعاب القيم البيروقراطية وفهمها على الوجه الصحيح وتحقيق شروطها التي أهمها أن تكون تحت رقابة المجالس النيابية. فالبيروقراطيات آلية لتنفيذ الإرادة السياسية وليس من مهامها التشريع. فأداء الأجهزة الحكومية في الوقت الراهن لا يخضع للمراقبة والمساءلة والمحاسبة، وإنما فحص الإجراءات الورقية فقط. وهكذا أصبح المسؤولين في الأجهزة الحكومية والمستفيدين منها يدركون أن بإمكانهم الحصول على الأشياء إذا استطاعوا أن يوفروا تلك الاشتراطات ولو بصورة شكلية. فهذه المشاريع والخدمات الحكومية ربما انتفخت تكلفتها أضعاف ما كان يفترض في الواقع، وذلك بدافع تحقيق مصالح خاصة. ولأن هناك فصلا بين المخصصات والأداء والنتيجة النهائية للمشروع لا يمكن الحكم على أداء المشروع والتحقق من إنجازه على الأقل على مستوى الكفاءة والفاعلية. لقد أحدث التنظيم البيروقراطي فجوة بين صاحب القرار والموطنين، فالبيروقراطيون انطلاقا من مركزهم السيادي يرون أنهم أحق في التقرير نيابة عن الناس فيما يتعلق باحتياجاتهم التنموية. وهكذا أصبح المواطن يتلقى هذه الهبات التي يمن بها عليه البيروقراطيون ويخضع للإجراءات والاشتراطات التي تفرض عليه من غير حول له ولا قوة. هذه العلاقة الموجهة من طرف واحد خلقت فهما خاطئا لدور الحكومة في المجتمع، حيث أصبح بعض المسؤولين والعموم يفهمون أنه مجرد وسيلة لتحقيق المنافع الفردية وليس الجماعية. فعندما تنصح أحدهم يسيء استخدام السلطة أو المال العام أو الخدمات العامة يسارع في الرد "حلال الحكومة"، ولكن حلال الحكومة هو حلال الجميع، لأن الحكومة تمثل الجميع. هذا القصور في فهم المصلحة العامة واللهث وراء المصلحة الخاصة من خلال الحرص على الحصول على الموافقات البيروقراطية الورقية هو ما خلق ثقافة "حلال الحكومة"، وكأنما أصبح المال العام مستباحاً، لكونه فقط "مالا عاما". الحق الجماعي أهم وأعظم من الحق الفردي؛ لأن الحق الجماعي تكلفته عالية تطال جميع أفراد المجتمع إن لم يكن على المدى القصير فعلى المدى الطويل. نحن نعيش في نفس السفينة وعلى الناس بجميع مستوياتهم مسؤولين وعموم أن يدركوا أنه من مصلحتنا ألا تغرق. ولتحقيق ذلك علينا تصحيح مفهوم "حلال الحكومة" بضبطه من خلال المجالس النيابية لتكون هناك رقابة شعبية توجه وتحاسب البيروقراطيات العامة.