بالقرب من بيت الله الحرام، وسط «حي الشبيكة» العتيق، أمام مسجد المحجوب، وبين السوق الصغير ومدارس الفلاح، كان ثمة إطلالة تاريخية لا تخلو في جمالها عن جمال أهالي أم القرى التي مثّلت أزقتها وحاراتها وأسواقها القديمة -للمكيين وغير المكيين-، قصيدة شعرية ولوحة سريالية تعبُر بنا الآفاق، وتعبّر عن مكنون الحب والأشواق، حيث الصور الزاهية لتاريخنا الاجتماعي وموروثنا الثقافي والاقتصادي، فقد كانت أسواق مكة تمثل داراً للمكيين وزوّار البيت العتيق، لاسيما في ليالي رمضان حيث «الأتاريك» و»الفوانيس» والأطفال والباعة وقاصدو البيت الحرام هناك، حيث «حي الشبيكة» الذي شهد مولد «سوبيا الخضري» الذي تنقل بين أزقة أم القرى وأحيائها فمن «الشبيكة» إلى «الحفائر» ثم «شارع منصور» ثم «الرصيفة» التي استقر بها إلى يومنا هذا. من بين ما تميّزت به سفرة الإفطار الرمضانية في المملكة وخاصة في مكةالمكرمة، برزت السوبيا كمشروب محبوب من الجميع، إلاّ أن السوبيا في مكة، نالت شهرة واسعة، وأصبحت سِمة تُعرف بها البيئة الرمضانية في مكة، خاصة على يد واحد من أشهر صانعيها والذي لاشك أن السوبيا كمشروب رمضاني لاسيما في المملكة ارتبط باسم أحد أبناء مكةالمكرمة ألا وهو العم سعيد بن علي الخضري. هواية وإبداع ولد سعيد بن علي بن محمد خضري في «حارة الشبيكة» -إحدى حارات مكةالمكرمة-، حيث كان هناك منزل والده الذي نشأ به وعاش فيه، وتذكر الأستاذة ضحى الحرازي التي أجرت حواراً مع أبناء عميد السوبيا في مكةالمكرمة أن رحلة العم سعيد الخضري بدأت منذ صغره كهواية وإبداع ذاتي، حيث يتم تجهيزها وتحضيرها بطريقته الخاصة، في محلٍ لا تتجاوز مساحته بضعة أمتار أمام الحرم المكي الشريف، استعداداً لبيعها . وتعتبر «عصائر السوبيا» أحد أهم المشروبات التي يحرص أهل الحجاز في مكةالمكرمة والمدينة المنورة ومدينة جدة على وجودها في مائدة الإفطار في شهر رمضان المبارك، لما له من نكهة خاصة في الشهر الكريم، الأمر الذي يجعلهم يتزودون منه بكميات كبيرة خلال أيام رمضان، كما تعرف السوبيا في مصر، وتشتهر بصناعتها وتجهيزها «عائلة الخشة» بالمدينة المنورة، و»عائلة الخضري» و»عائلة الحسيني» في مكةالمكرمة . عراب السوبيا ومشروب السوبيا هو مشروب طبيعي بدأ أهالي مكةالمكرمة بصناعته في المنازل يدوياً، حتى اتخذ أحد أبنائها وهو سعيد الخضري كما كان يطلق عليه -رحمه الله-، أو سعيد علي محمد خضري، خطوة عمليّة في نشر مشروب السوبيا بين المواطنين والمقيمين، عندما احترف صناعتها وبادر بتوزيعها بين معارفه وكل من طلبها بعد تذوقها ومعرفة جودتها من خلاله، حتى ذاع صيته كصانع لها في المجتمع المكي كافة، فاقترنت وظلت حتى اليوم باسمه، وارتبط هو بتاريخ صناعته لها، فهو «عراب» السوبيا في مكةالمكرمة وعنوانها التاريخي وأحد أهم أسباب انتشارها ورواجها بين الأهالي هناك وأصلها. خلطة سرية وأصبح للسوبيا التي يصنعها العم سعيد الخضري عشاقها، لاسيما بعد أن تميزت عن غيرها من العصائر، بجودة طعمها ومذاقها اللذيذ ونكهتها الكامنة، حيث زاد طلبها، وفضلها أهالي مكة على غيرها، ما جعلها تمتاز عن بقية ما يصنع من أنواع السوبيا في مكة، وقد دل على تلك الجودة، انتشارها بين الأهالي حيث حظيت صناعتها بتحسينات وتطويرات مستمرة، تمثلت بإدخال ما عرفه المكيّون ب»خلطة سعيد الخضري السرية»، حتى استحقت ذلك الاكتساح والشهرة عن جدارة وتفوقت على المشروبات والعصائر المحلية آنذاك. أزيار فخارية ولكثرة الطلب على السوبيا التي يصنعها سعيد خضري، لاسيما في شهر رمضان المبارك، أصبحت السوبيا مرتبطة بهذا الشهر الكريم، حيث كان سعيد الخضري يضع كميات السوبيا التي يعدها هو وأبناؤه في أزيار صغيرة الحجم، صنعت من الفخار خصيصاً لبيعها، ومع تطوّر الصناعة اُستُبدِلت الأزيار الفخارية بعد ذلك بالأكياس والعبوات البلاستيكية. ألياف ذائبة ويُعرف أهل الاختصاص العلمي السوبيا الغنية بالألياف الذائبة، بأنها تغيّر حيوي كيميائي على شكل كربوهيدرات وسكريات، ف»سُكر الشعير» المذاب في الماء ما هو إلاّ سكر يسمى «المالتوز»، أما سكر «الزبيب» المذاب في الماء فهو سكر أحادي يسمى «الجلوكوز»، وبذلك تكون السوبيا من السُكريات المذابة في الماء بطريقة مقننة، موزون فيها نسبة الحمضية، كشراب طبيعي (100%) بدون مواد حافظة. أول محل وكان العم سعيد الخضري قد أسس في عام 1375ه أول محل له في «الشبيكة» بالقرب من المسجد الحرام أمام مسجد المحجوب بين سوق الصغير ومدارس الفلاح، وزادت شهرته وأصبح الزبائن يتوافدون عليه من كل حدب وصوب، حتى أصبحت دوريات المرور في مكة تتواجد هناك لتنظم حركة مرور السيارات أمام الدكان بسبب الزحام، خاصةً في شهر رمضان المبارك، ثم ظل يتنقل محل الخضري بعدها إلى عدة أماكن أخرى، منها جبل الكعبة ثم الحفائر ثم شارع منصور ثم الرصيفة التي استقر بها إلى يومنا هذا، وذلك بسبب مشروعات توسعة منطقة الحرم المكي الشريف. مكونات السوبيا ويشير المختصون كما ذكرت الأستاذة ضحى الحرازي أن مشروب السوبيا هو عبارة عن شراب الشعير أو الخبز الناشف أو الشوفان، وتصنع منه «السوبيا البيضاء» المكونة من الشعير الطائفي البلدي كما يقول منصور بن سعيد الخضري، أمّا «السوبيا الحمراء» فتعد من الزبيب والكركديه، ويعد الشعير البلدي والهيل من مكونات السوبيا البيضاء أيضاً، ويضاف لها بعد تصفيتها مقادير من السكر وحب الهيل والقرفة وتخلط بمقادير متناسبة، ثم يضاف لها الثلج للتبريد، ويمكن كذلك خلط كل هذه المكونات مع بعضها لتصنع شراباً مشكلاً وردي اللون، كما يمكن إضافة نكهة الفراولة أو التمر الهندي، وينصح بتناولها خلال يومين أو ثلاثة لأنها تفقد قيمتها الغذائية بعد ذلك، ويباع اللتر منها بخمس ريالات أي ما يعادل (1.3 دولار). لقاء صحفي وفي مقابلة نادرة مع العم سعيد خضري أجراها الإعلامي الراحل هاني فيروزي –رحمه الله- قال الخضري: إنه عند الساعة الثانية بعد الظهر، وعندما يخرج الموظفون من دوامهم، يفدون إليه لأخذ السوبيا التي يصنعها، كما أن طلبة المدارس أيضاً من زبائنه حيث يتسابقون على محله للحصول على الجديد منها، وفي شهر رمضان يتزاحم الناس للحصول على السوبيا قبل أذان المغرب أي قبل الإفطار، إلاّ أنه قال: إن الزحام الأشد يحصل عقب الصلاة، وبالتالي فزبائنه من جميع الفئات، وأضاف الخضري أن الزحام الشديد يأتي في الغالب في الشهر الكريم، فالكل -كما ذكر- يأتي إلى المحل ليشتري سوبيا سعيد الخضري، حيث يتكرر المشهد كل عام، ويصطف الناس في طوابير أمام المحل للحصول على مشروبهم الشهي. مشروب متجانس ولابد أن يتم تحضير وصناعة السوبيا في بيئة معقمة كاملة النقاء، تسخن عند درجة الغليان (100) درجة مئوية، ثم التبريد عند درجة التجمّد، وذلك لإحداث التفاعل وتكوين مشروب متجانس القوام، ونتيجة لمكوناتها الطبيعية، فإن تجارها يراهنون على فائدتها وأهميتها الغذائية إن هي أعدت في بيئة صحية سليمة وتحت مراقبة صارمة، ويستشهد تجار السوبيا بما ورد في كتاب «زاد المعاد» لابن القيم -رحمه الله- حين قال: «إن ماء الشعير قاطع للعطش ومطفئ للحرارة». تقليد الصنعة ويذكر من أدرك نشاط سعيد الخضري أنه لم يسلم من التعدّي، حيث حرص البعض على تقليد صنعته، بل وكتابة اسمه على بعض المنتجات الخاصة بالسوبيا، والتي تعد وتحضر في محال وأسواق مختلفة، وعلى الرغم من أن هذا كان تعدياً على حقوق الاسم والصناعة من قِبل البعض إلاّ أن العم سعيد الخضري -رحمه الله- لم يكن يأبه لذلك ولا يلتفت له؛ لأنه -حسب ما يذكر معاصروه- كان قنوعاً بما خصّه الله تعالى من رزق، وكان يقول: «السوبيا خدمة إنسانية وليست تجارية والناس تشرب وتدعيلك، وقد لا يعرفني الناس شخصياً، لكنهم يعرفون السوبيا التي أصنعها». فوائد الشعير وذكر الباحثون فوائد كثيرة أخرى للشعير، الذي تصنع منه السوبيا، منها أنه يمد الجسم بالطاقة، ويُخفِّض نسبة الكولسترول في الدم، ويحمي من تصلب الشرايين، ويحافظ على توازن السكر في الدم، ويمنع ارتفاعه المفاجئ أيضاً، كما أنه مدر للبول وملين ومهدئ للقولون، وله القدرة على تفتيت حصوات المرارة والكلى، كما يُشعر بالشبع، ويحتوي على ما يسمى بالحمض الأميني، والذي يؤثر إيجاباً وبشكل ملحوظ، في الحالة النفسية والمزاجية للإنسان. أبناء الخضري عقب وفاة العم سعيد الخضري تولى أبناؤه مهنة والدهم، فقاموا تلبية لطلب الزبائن وعشاق سوبيا سعيد خضري، بوضع شعار لاصق خاص بمنتجهم الذي يصنعونه باسم «سوبيا سعيد خضري»، منعاً للالتباس وخداع الناس، كما أنهم عملوا على تغليفها حرارياً، وبرغم شهرة سوبيا سعيد الخضري إلاّ أنه لا يوجد أي فروع لمحل سعيد خضري الكائن في شارع الرصيفة بجوار المحطة، الذي يصنع سوبيا بالخلطة السرية. فرص استثمارية واعتاد الجميع على مشاهدة بسطات بيع السوبيا أمام الأسواق والمحال التجارية وفي الشوارع الرئيسة في مكة والمدينة طوال شهر رمضان، ويستغل كثير من الشباب موسم الشهر الكريم لاستثماره في بيع «السوبيا»، فيبيعونها داخل أكياس يتراوح سعرها بين خمسة وعشرة ريالات للكيس الواحد، في حين تشهد فترة ما بين العصر والمغرب في الشهر الكريم ذروة الإقبال على المحال والبسطات لشراء أكياس السوبيا الشهية، وفي العقدين الأخيرين أصبحنا نشاهد أكشاك بيع السوبيا في كل من الرياض والقصيم والدمام وأبها وتبوك وعدد من مناطق ومدن المملكة، ولا شك أن اسم سوبيا الخضري يظل حاضراً في معظم هذه الأكشاك على الرغم من أنها لا تعود في ملكية لأبناء سعيد الخضري إلاّ أن ذلك كان ضريبة لشهرة سوبيا سعيد خضري -رحمه الله-. رحيل العميد في منتصف التسعينات الميلادية توفي عميد السوبيا بمكةالمكرمة، فرثاه عدد ممن عرفوه وجاوروه سنوات طويلة، وكما فقده أهله وزملاؤه فقده مرتادوا محله الصغير الذين كانوا يرددون «من ذاقها عرفها ومن عرفها غرفها» حينها واصل أبناؤه صنعة أبيهم، حينذاك كتب الدكتور عبدالعزيز سرحان مقالاً رثائياً، نشر في صحيفة الندوة تحت عنوان «ورحل نجم السوبيا وإمبراطور الشراب الرمضاني الشهير»، قال فيه: «سنذكرك يا أبا ساعد دائماً كلّما شربنا السوبيا، وكلّما مررنا بالشبيكة، وكلّما حل علينا شهر الخير شهر رمضان المبارك». سعيد بن علي الخضري محل الرصيفة لسعيد الخضري وقد ازدحم بالزبائن إعداد - منصور العساف