في سنوات الطفولة، كنت أخرج من منزلنا قبل شروق الشمس، مخترقاً طريق كنت أراه طويلًا في ذلك الوقت، وهو الآن فركة كعب، كنت آخذ طريقي من منزلنا في حوش الإجاوزة، مخترقاً طريقاً كنا نسميه درب العبابيس، حتى أصل إلى شارع درب الجنائز، ومنه أعبر شمالًا باتجاه حارة ذروان، وهي حارة صغيرة مليئة بالظلال، في مدخلها، قصبة ماء، تغذيها وتغذي درب الجنائز، هذا الشارع المهيب، تعبره الجنائز كل يوم من كافة أرجاء المدينة، متجهة إلى بقيع الغرقد، بعد القصبة بضعة دكاكين لخدمة سكان ذروان، الذين يعتبرون من أهل السور، البيوت في هذا الحي جميلة، مبنية بالحجارة السوداء، وبها رواشين ولها أبواب منقوشة، وكنت أرى وأنا أعبر الحي كل صباح، حاملي الماء وهم يطرقون على أبواب المنازل، لتوصيل المياه إلى أهلها، ولك بعد ذلك أن تعرف مستوى هؤلاء السكان، الذين يجاورون قصبة الماء ويستعينون بسقاء، قياساً على سكان حوش الإجاوزة، الذين ينزحون الماء من قصبة الحوش فجر كل يوم! وبيوت هذا الحي ليست على نسق واحد أو مساحات واحدة، ففيه المساكن الصغيرة والكبيرة، وفيه البيوت العامرة بالخدم والحشم، لكن سكان الحارة اوالحي عمومًا من الطبقة المتوسطة، التي لا تعاني الفاقة، كما تعانيها أسر كثيرة مجاورة أو حول المسجد النبوي الشريف. لكن الشيء الذي لفت نظري ومازال عالقاً في ذهني من مرحلة الطفولة وحتى الآن، هو منظر مجاور هندي، كنت أراه كل صباح وأنا أعبر الحي في طريقي إلى المدرسة، كان هذا المجاور، يجر بيديه دراجة هوائية، محملة بفضلات الجزارين من اللحوم، وكان حالما يقف أمام بيت أو عدة بيوت تخرج له القطط من البيوت أو من الزوايا وكان يقدم لكل قطة أو مجموعة القطط حصتها الصباحية من فضلات اللحوم ويذهب إلى غيرها حتى تفرغ دراجته الهوائية من حملها، حينذاك يمتطيها متجهاً إلى حارة الأغوات المجاورة! أسأل الآن من الذي كلف ذلك الهندي البسيط بتلك المهمة المجهدة التي يباشرها كل فجر، مبتدءاً من خان الجزارة، قاطعاً درب الجنائز، داخلًا حارة ذروان، وكيف تعرف القطط بمجيئه، حتى تكون في استقباله في السكك وأمام أبواب المنازل؟ الهنود، ماغيرهم، كانوا يقومون بأدوار إنسانية عديدة في مدينة المصطفى، من العيادات الصحية إلى التعليم، حتى قطار الحجاز كان لهم دور في دعمه حتى بدأ تسيير أولى رحلاته قبل أن يتوقف عن العمل عند نشوب الحرب العالمية الأولى، كل تلك المنجزات شيء وإن تشمل رعايتهم للأعمال الخيرية القطط شيء آخر! وهى رعاية تذكرنا بجمعيات الرفق بالحيوانات، وهي رعاية تتضمن تقديم الرعاية الصحية والغذائية والإيوائية، للحيوانات الضالة، هذه جمعيات موجودة الآن على نطاق واسع في كافة دول العالم، لكن لو طرحت هذه الفكرة على مواطن في العالم الثالث، لقال لك بالفم المليان: هو احنا رفقنا بالمواطن حتى نتولى الرفق بالحيوان؟ ذلك المجاور الهندي بدراجته الهوائية كان رائداً، فلم يفرق في رفقة بين الإنسان والحيوان، في الرعاية والاهتمام!