تبوّأ الروائي الياباني ميشيما مكانته الرفيعة في تاريخ الأدب العالمي بإقدامه على قرار الانتحار، وهو في ذروة قوته الجسدية، وشهرته الأدبية، إلى درجة اقترن انتحاره بكل حديث عنه، وربما غلب الاهتمام بما خلفه من تركة سردية شديدة الأهمية، وطبقاً للمعلومات الشائعة فقد اتّخذ قراره على خلفية من شعوره بالاضطراب الثقافي جرّاء الهزيمة النكراء التي لحقت باليابان خلال الحرب العالمية الثانية، فقد تهشّمتْ الهوية التقليدية لبلاده، وأُدرجت في تبعيّة لأميركا عقب الإذلال الذي مارسته بالقنابل النووية التي أحالت إمبراطورية عريقة إلى بلاد مستسلمة، ثم تابعة بعد ذلك، وقوبل المآل الذي انتهت إليه اليابان بالازدراء من ذوي الهويات القومية والثقافية الثابتة الذين لا يأخذون في حسبانهم الفرق بين الوقائع والتخيّلات، واندرج ميشيما في هذه الفئة التي جعلت من حسّها العميق بالهوية حجاباً منع عنها رؤية أمة عظيمة، وهي اليابان، تركع خاشعة أمام دولة قيد التشكيل، وهي أميركا، فما استوعبت المهانة، ولا قبلت بالأمر الواقع، واختارت قرارها في ضوء ذلك. ولم يكن ميشيما أول الكتّاب اليابانيين الذين احتجّوا بالانتحار على ما رأوه تدهوراً مريعاً في أحوال بلادهم، فقد سبقه إلى ذلك عدد من أقرانه. وحيثما جرى تقليب الآراء حول انتحاره، فقد استبعد أن يكون تعبيراً عن ضعف نفسي، فربما يكون نتاجاً لرهافة مفرطة في الحسّ، وشعور حاد بالاقتلاع الذي شعر به، وقد احتفى ميشيما بالقوة وبالثقافة معاً باعتبارهما حافزين متضافرين، فقوته البدنية التي اكتسبها بالمراس الصعب متّبعاً الأساليب القتالية للساموراي، كانت عنده دعامة للثقافة اليابانية التي تفكّكت أواصرها بإزاء الحداثة الغربية، وقد كتب عن نفسه مستخدماً ضمير الغائب مقالة بعنوان "يوكيو ميشيما بقلم يوكيو ميشيما"، تحدّث فيها عن ذاته بصيغة الغائب، ومن خلف قناع، فكشف عن خصاله، ومُثله العليا، وفِي مقدمة ذلك رياضته البدنية العنيفة، وثقافته التقليدية الأصيلة، فعدّ الرجولة المثالية للمرء "امتلاك وجه شاعر وجسد مصارع ثيران"، وهو ما دفعه إلى الانشقاق عن مجتمع رآه لا يحتفي بالقوة ولا بالأصالة، ومع إحساسه بالانشقاق، فقد واظب على كتابة الرواية، وهو غزير الإنتاج، وخلّف نحواً من ثلاثين كتاباً، حتى إنه كنّى عن نفسه بالكاتب الذي" يقضي الليل ساهراً حتى الصباح مستمرّاً في كتابة الروايات على مدى ما يقرب من عشرين عاماً، ومهما لاقى في ذلك من محن ومتاعب لمرّات كثيرة، فهو مستمر في كتابة الروايات من دون أن يتّعظ، وكلّما استمر في الكتابة كلّما أصبحت رواياته أكثر صعوبة"، فلم توفر له الكتابة إمكانية للانسجام مع العالم الذي يعيش فيه بل زادته شعوراً بالانقسام، والغضب، وبغية الوصول إلى حلّ لذلك الخصام الذي خلص إليه، فقد توقّع أن يقوم بعمل جليل في وقت ليس بعيداً "في المستقبل القريب يستطيع القيام بعمل هائل للغاية". جاء ذلك العمل المرتقب بالانتحار الذي أقدم عليه بقلب شجاع يوم 25-11-1970حينما بلغ الخامسة والأربعين من عمره، بأسلوب راعى فيه طرائق الساموراي، فقد أعدّ العدة لذلك، و"حزم كليتيه بقطعة من النسيج القطني، وانتضى سيفه التقليدي القصير، ومن دون تردّد أو وهن أغمده في أحشائه، منتزعاً إياها في انتحار علني"، فكأنّ موته كمال خالص اختاره عارفاً بدلالته لكن حوافزه راحت تنأى كلما مرّ الزمن، وكلما ترادفت التأويلات الثقافية حوله، فحزم الكليتين، وإغماد السيف في الأحشاء، وانتزاعها، هي الحبكة الناظمة لأحداث سابقة وتأويلات لاحقة. رسم ميشيما الإطار السردي الحاضن لانتحاره، لكنه شحّ علينا بالتفسير الكامل لذلك الفعل البطولي، فقد أحاط انتحاره باحتفال مهيب، وجعل منه تعبيراً عن انتظار طويل خطط له بعزم ودراية، فقد أنشأ كتائب عسكرية أخذت بتقاليد الحروب اليابانية، وقوامها بضع مئات من الأتباع المؤمنين بالمجد الإمبراطوري، وأشرف على تدريبهم، وكتب نشيدهم الحماسي، وسمّى ذلك الجيش ب"جماعة كبش الفداء في سبيل الإمبراطور"، وشرع في التخطيط للموت بين أتباعه تعبيراً عن احتجاج معلن وليس تعبيراً عن يأس، ولما اقترب الموعد، واكتمل الاستعداد، سلّم لناشره آخر جزء من رواية كبيرة له، ثم استحمّ، وحلق ذقنه، وارتدى بزته العسكرية، وخطّ ملاحظة قصيرة على ورقة تركها على مكتبه قال فيها "حياة البشر قصيرة، لكنني أودّ أن أحيا إلى الأبد"، فهوى على سيفه الذي اخترق جسده، فحقّق ما كان يرنو إليه منذ زمن، كان يريد أن يموت لكي لا يفنى، فتطلّع إلى زرع ذكرى مجيدة في مجتمع تعرض للاختلال. غرز ميشيما سيفه في بطنه الضامرة بعد أن خطب في أتباعه داعياً إياهم إلى الحفاظ على الروح اليابانية الأصيلة، ومبيّنا لهم خطر الأخذ بالثقافة الغربية، وقبل سنة من ذلك صرّح بأنّ الموت يتسلّل إلى جسده، وأن حياته تطوي من الفراغ ما يطويه لوحات الفن الياباني من مساحات فارغة، وذكر أنه يقاوم ذلك بالكتابة، وربما تكون خلجات مضطرمة خطرت له في لحظات تأزّم، وسرعان ما تحلّ بمحلّها أخرى تختلف عنها في نوع الإفصاح عن مكنون النفس، فربط هذه الأسباب بذلك الفعل الجريء يظل بحاجة إلى رسم سياق أكثر ثراء من الأسباب الظاهرة ليكون مكافئاً له في الحجّة. طرح انتحار ميشيما على بساط الموت مفهوماً جديداً للبطولة، لم يُطرق من قبل، فقد كان البطل في الأزمنة القديمة يفتدي قومه بنفسه في حرب لأنه جزء منه ومن قيمه العامة، وهو أمر يلاحظ في أبطال الملاحم، وفي سير الفرسان، في سائر الآداب والتواريخ، غير أن هذا المفهوم تعرض للتغيير، كما قال "هيغل" وأتباعه، في العصور الحديثة: إذ انشق البطل عن جماعته، واستغرق في ذاته، وشغل بها أكثر من انشغاله بالجماعة التي ينتمي إليها، وإذا كان البطل الأول هو بطل الملحمة فإن الثاني هو بطل الرواية، وهما علامتان دالتان على مشروعية التمثيل السردي في العصور القديمة والحديثة على حدّ سواء، لكن الفعل الذي أقدم ميشيما عليه، وهو إنسان حقيقي وليس نتاجاً للتخيلات السردية، لا يمتثل للحالتين، فلم يفتد قومه بروحه حينما غزا الأميركيون بلاده، إذ كان في نحو العشرين من عمره، فيتطابق حاله مع حال الأبطال القدامى الذين يفتدون أممهم في مقتبل أعمارهم، ولا هو انكفأ على ذاته هارباً من المسؤولية الجماعية كما اعتاد على ذلك أبطال الروايات في الأزمنة الحديثة المشغولون بذواتهم وطموحاتهم الفردية، إنما بعد ربع قرن من هزيمة بلاده أحيا في نفسه رغبة في الثأر، ولكن ليس لينتقم من الأعداء، بل من نفسه، بدعوى فشله في إعادة تاريخ اليابان إلى الوراء، إلى حقبة ما قبل الهزيمة النكراء، حيث الأمجاد الثيوقراطية، وحيث ينحبس الزمن في ثقافة تقول بعصمة الأباطرة، ولا تستجيب للتغيرات التاريخية التي طرأت في العالم الحديث.