قبل عامين، وأثناء رحلة طيران باتجاه عاصمة عربية مثيرة، عُرض على شاشة كبرى في مقدمة الطائرة فيلم Life of Pi.. "حياة باي"، وهو فيلم رائع أنتجته شركة أفلام أميركية شهيرة بميزانية تجاوزت 120 مليون دولار، وفاقت أرباحه النصف مليار دولار.. وقد حصل هذا الفيلم المأخوذ عن رواية مغامرات خيالية للمؤلف الكندي يان مارتل على 4 جوائز أوسكار وأكثر من 40 جائزة سينمائية أخرى. على مدى ساعتين من الإثارة والتشويق وحبس الأنفاس، تتسلل الدهشة والصدمة والذهول، فأحداث هذا الفيلم المثير تُجسد حزمة مكثفة من الطقوس والمشاعر والدهشة. قبل أيام فقط، وقعت عيناي على رواية "حياة باي" في إحدى دور النشر في معرض الرياض الدولي للكتاب. كانت هذه الرواية المذهلة، رفيقة دربي في "قطار الشرق" الذي يغوص في رمال الصحراء لأكثر من أربع ساعات ونصف ليصل إلى الساحل. وتدور أحداث الرواية حول صبي هندي يبلغ السادسة عشرة من عمره يُدعى بيسين باي، تحطمت السفينة التي كانت تحمله مع عائلته في المحيط الهادي، وكان هو الناجي الوحيد مع نمر بنغالي مفترس يزن أكثر من 200 كيلو جرام. على قارب نجاة صغير، مع نمر ضخم، ولمدة 227 يوماً، كان على "باي" وشريكه المفترس أن يُنشأ علاقة/ صفقة ما ليبقيا على قيد الحياة. نعم، قد تكون علاقة مستحيلة، ولكنها طوق النجاة الوحيد الذي سيصل بهما إلى شاطئ الأمان. لقد أدركا -باي والنمر- بأنهما بحاجة لبعضهما. باي يقوم باصطياد السمك لإطعام النمر الذي لم يعد يُفكر بافتراسه، وهكذا مضت الشهور حتى وصل قاربهما إلى المكسيك، ولكن الصدمة الكبرى التي جعلت باي يبكي بحرقة شديدة، كانت لحظة هروب النمر إلى داخل الغابة بمجرد أن وطأت قدماه اليابسة. قصة باي مع النمر البنغالي، فانتازيا مثيرة نُسجت أحداثها وتفاصيلها بشكل غير مألوف يتناسب مع السينما أو الرواية، ولكنها في حقيقة الأمر قصتنا جميعاً. لكل منا نمره الذي يختبئ في أعماقه، ولكل منا نمره الذي يخشاه، ولكل منا نمره الذي لا يُريده أن يهرب منه. دواخلنا مليئة بالنمور، بعضها هواجس ومخاوف وظنون، وبعضها ظلال وغربة وجمود، وقد تكون هي الحقيقة التي نُحاول أن نهرب منها، تماماً كما فعل ذلك النمر البنغالي. نعم، هناك الكثير من النمور المفترسة التي تُشاركنا الحياة، وكل ما نحتاجه هو أن نعقد معها صفقة ما لكي نستطيع العيش/ التكيف معها. حينما تجد نفسك وجهاً لوجه مع نمر مفترس، لا تخف، ولكن فكر جيداً، كيف تعقد معه صفقة.