تأسس حزب البعث العربي الاشتراكي في دمشق، في العام 1947، وهذا الحزب الحاكم في سورية منذ العام 1963 حتى الآن، حزب طائفي شوفيني دموي مناطقي عائلي، لا يعرف للرحمة معنى، ولا للعاطفة موقعاً، ولا للإنسانية سبيلًا، ولا للمواطنة قيمة. تقوم عقيدة حزب البعث وفلسفة الحكم على مضمون البيتين المسجلين في موقع قيادة التنظيم وهما: بعثٌ تشيده الجماجمُ والدمُ تتهدمُ الدنيا ولا يتهدمُ لمّا اعتنقنا البعثَ كنا نعلمُ أنّ المشانقَ للعقيدةِ سلمُ ما يحدث في حلب شرخ في ضمير الإنسانية، إذ تلاعبت بحلب المصالح الضيقة، والحسابات الخاصة لدول، ورؤساء عرب وأجانب، ماتت ضمائرهم، وافتقدوا أدنى مشاعر الرحمة.. لهذا فقد كانت ممارسات هذا النظام الوحشي منذ الإرهابي الأول حافظ وأخيه رفعت منسجمة تماماً مع هذه العقيدة التي لا ترتقي إلا على المشانق، أسلوباً للعمل، ومنهجاً للحكم، ضد الشعب المغلوب على أمره. لقد ارتكب نظام الديكتاتور حافظ الأسد عدداً من المجازر الجماعية في طول البلاد السورية وعرضها -طوال فترة حكمه التي انتهت بهلاكه في العام 2000- مبتدعاً طريقة للإرهاب؛ تتمثل في الاعتداء على حرمة المساكن، واختطاف النساء، وسلب الأموال والممتلكات، وقتل الأزواج والتمثيل بهم أمام الزوجات والأولاد.. أقدم النظام على هذه الجرائم تحت سمع العالم وبصره، ومن أبرز تلك المجازر؛ مجزرة حماة عام 1982 التي سبقتها محاولة اغتيال الديكتاتور حافظ، وراح ضحيتها ما يربو على ثلاثين ألف قتيل من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال، عدا ما يزيد على مئة ألف نازح.. كانت مدينة حماة "بحكم التكوين النفسي والديني والوطني والتاريخي لسكانها، الهاجس الذي أقلق رأسي النظام الأسدي؛ حافظ ورفعت، حتى بلغ الأمر بالسفاح رفعت أن يصرح أنه سيجعل المؤرخين يكتبون: أنه كان في سورية مدينة اسمها حماة.. وأنه سيبيد أهلها، لتكون عبرة لغيرها من المدن السورية". "لم يكن بشار الأسد شذوذاً أو استثناءً في منظومة الحزب العائلي الطائفي الدموي، فهو نتاج تلك الحاضنة الفكرية القائمة على فكر إقصائي استعلائي، مغلف بإنشائيات رومانسية، وشعارات زائفة، كتبها شخص مأزوم يدعى ميشيل عفلق في فترة مأزومة من تاريخ المنطقة العربية"، ولأن الولد سرّ أبيه، وهذا المجرم من ذاك الطاغية، فقد سار الولد على نهج أبيه الإجرامي، إذ شهدت كثير من المدن السورية مجازر تعد الأكثر تدميراً ودموية في العصر الحديث، منذ اندلاع ثورة 2011.. فلم يشهد التاريخ مثل التآمر الإجرامي الثلاثي الروسي والإيراني والنظام السوري؛ فقد أبيدت سورية شعباً وأرضاً، ونشطت في التدمير ميليشيات إيران الصفوية العنصرية من شذاذ الآفاق، بمصاحبة قصف الطيران الروسي وبراميل النظام السوري وغازاته السامة، ومشاركة إحدى الدول العربية تدريباً وتسليحاً، كما أعلن بعض قادتها، وكان بوتين قد نجح في وضع أوباما أمام الأمر الواقع في سورية، إذ عرف كيف يستغلّ تردده وتراجعه عن استخدام القوة رداً على سلاح بشار الكيميائي ضد شعبه، لهذا كان تدخل بوتين في حلب صارخاً -اعتماداً على ضعف أوباما- بتدمير حلب على رؤوس أهلها، وإعادتها إلى كنف النظام والميليشيات التابعة لإيران، إذ يوجد حالياً 12 ألف مقاتل، من أصل 18 ألف في صفوف الميليشيات الشيعية الموجودة على أرض حلب، بينهم 7 آلاف يقودون الهجمات العنيفة ضد الثوار بشرق المدينة، منذ منتصف نوفمبر الماضي، وحاولت تلك الميليشيات إعاقة عملية وقف إطلاق النار في حلب، في وقت كانت فيه المحادثات التركية الروسية مستمرة من أجل إجلاء آمن لعشرات الآلاف من المدنيين وآلاف فصائل الثوار، المحاصرين في مساحة لا تزيد على ستة كيلو مترات. ما يحدث في حلب شرخ في ضمير الإنسانية، الإنسانية التي وصفتها صحيفة نيويورك تايمز، بأنها تنتحر على أسوار حلب، إذ تلاعبت بحلب المصالح الضيقة، والحسابات الخاصة لدول، ورؤساء عرب وأجانب، ماتت ضمائرهم، وافتقدوا أدنى مشاعر الرحمة. تتكرر في حلب اليوم المأساة نفسها التي ارتكبها ذات جحيم بعثي الأب الديكتاتور، لكن في زمن غير الزمن، وبأدوات غير تلك الأدوات، وبرجال ليسوا كالرجال، بل طغاة كانوا يتوارون بثياب خلف شعارات الأمة العربية، فإذا هم ينحازون إلى القتلة والمجرمين، أناس كان يُظن أنهم قد بقي في نفوسهم شيء من الكرامة والشهامة والنخوة العربية التي تأبى الظلم، وتسارع إلى نصرة المظلوم ضد المعتدي، ما يحدث في سورية كشف عن معادن رخيصة وأنفس خبيثة، وقلوب مريضة لم تتوانَ عن اللحاق بركاب القتلة تنفيساً عن أحقاد، وطمعاً في مكاسب قد يجود بها هذا الزعيم، أو تلك الدولة، بسبب خيانة هؤلاء وتواطئهم.. تعاني حلب اليوم -كما عانت مدن ومناطق أخرى من قبل- الألم والوجع، والغدر والخيانة من محسوبين على أمة العرب. سارت يوم الأربعاء الماضي احتجاجات شعبية، في عدد من المدن العربية والغربية، تنديداً بما يقع في حلب من جرائم وحرب إبادة، وطالب المتظاهرون في بعض العواصم العربية بطرد سفراء روسياوإيران وسورية، وهذا يدل على تنامي الغضب الشعبي مما يحدث في حلب، وربما كانت هذه هي المرة الأولى منذ نشوب الحرب السورية، التي تسير فيها احتجاجات تعاطفاً مع الشعب السوري، ففيما مضى من السنوات كانت المظاهرات تعم الشارع العربي عند أقل اعتداء إسرائيلي ضد غزة أو جنوبلبنان، لكن منذ خمس سنوات لم يشهد الشارع العربي ذلك الاستنفار نصرة لضحايا سورية، ربما لأن من كانوا يحركون الشارع العربي، هم أنفسهم الوالغون اليوم في الدم السوري؛ بمناصرة الطاغية، من رؤساء دول، وساسة وحزبيين وإعلاميين ومثقفين.. لهذا لم يكن غريباً مسارعة بعض الإعلاميين والفنانين والسياسيين العرب إلى تهنئة الطاغية بشار بانتصاره المغموس بدم أهل حلب، وأشلاء كبارهم وبقايا صغارهم، إنه زمن النفاق العربي، النفاق الذي لا يستحي أربابه من التلطي خلف أكاذيب باتت معروفة للقاصي والداني. الإنسانية لغة تسمو على كل الحسابات، لغة لا يفهمها الوالغون في الدم السوري، فعلى الرغم من التعاطف الواسع الذي حظي به أهل حلب، لم يجد إعلاميو وسياسيو وفنانو دولة عربية حرجاً في أن يُبدوا دهشتهم من التعاطف مع أهل المدينة المنكوبة، فليس ثمة وقاحة ولا جرأة ولا استعداء للضمائر الحية مما فعلته ممثلة سورية في قناة فضائية من شتم لأهل حلب، وإعلان استيائها مما وصفته بالتباكي في العواصم العربية والغربية على الأوضاع هناك! والأدهى من ذلك قولها: "نحن لا يشرفنا حملات أنقذوا حلب، والقمصان الحمراء، وغيرها.. حملة أنقذوا حلب نكتة"! وإذا كنا لا نعتب على تلك الممثلة نظراً لفكرها الضحل وثقافتها الضئيلة، فماذا عسانا أن نقول عن ذلك الإعلامي الذي يشغل منصباً سياسياً عندما قال: "بشار هو الرئيس الشرعي لسورية، والمعارضة هم إرهابيون متمردون يحملون السلاح في وجه دولتهم". ويشاركه في هذا الطرح البائس رئيس مجلس إدارة صحيفة كبرى بقوله: "كلما تعرضت التنظيمات الإرهابية الدنيئة للهزيمة، تتعالى الصرخات عن الدم السوري طلباً للهدنة، أو تبرير الدفاع عن الإرهاب تحت أي مسمى"! أما أكثر تلك الطروحات بشاعة وخسة، قول أحد أولئك المتواطئين مع الجلاد ضد الضحية: "إن الصور المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي عن مجزرة حلب قديمة، والترويج لها أمر يدعو للغرابة أو الضحك". إن مما يدعو للغرابة أن يتواطأ كل هؤلاء ضد ضحايا مذبحة حلب، في الوقت الذي كان فيه بعض الإسرائليين أكثر رحمة وشفقة على الضحايا ممن ينتسبون لأمة العرب -فحسب الكاتب الفلسطيني عادل الأسطل- فقد أبدى الإسرائيليون تضامناً واضحاً تجاه ضحايا إرهاب بشار، وترجموا ذلك من خلال سماحهم وتشجيعهم على تسيير مظاهرات شعبية كبيرة منذ أكتوبر الماضي، احتجاجاً على الهجمات الدامية ضد المدنيين الأبرياء في أنحاء سورية.. وعلى المستوى الديني، اعتبر الحاخام الرئيسي بأن سورية تُعاني من محرقة، ويجب وقفها بأي وسيلة، ودعا القادة في إسرائيل -سياسيين وعسكريين- إلى القيام بعمل ما، والوقوف أمام الفظائع التي تحدث في البلاد، من أجل إنقاذ المواطنين السوريين، برغم أنهم ليسوا بأصدقاء لليهود ولإسرائيل بشكل عام.. وتزامناً مع مناسبة عيد يوم الغفران اليهودي.. أقيمت في مدن إسرائيلية عديدة، صلوات توراتية جماعية، تضامناً مع السوريين ككل، وأولئك الذين لا يزالون يعيشون محنة قاسية جرّاء الحرب الأهلية المندلعة، أقيمت تحت شعار (العالم يلتزم الصمت، نحن لا)". وفي الأممالمتحدة هاجم السفير الإسرائيلي المندوب السوري، باللغة العربية، بسبب "عمليات القتل اليومية التي تطال السوريين، منتقدا إلقاء جيش النظام البراميل المتفجرة على الشعب السوري وقتله الأطفال والنساء والشيوخ". إنه أمر يثير العجب، ففي الوقت الذي يتحامل فيه عدد من الإعلاميين والساسة العرب ضد الشعب السوري، يتداعى بعض الإسرائيليين لنجدة الضحايا! تفاخر بشار قاتل شعبه، بسقوط حلب، وشبه ذلك بميلاد المسيح عيسى بن مريم، ونزول الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، معتبراً أن التاريخ قبل هذا الحدث لن يكون كما بعده، نعم فما بعد حلب لن يكون كما قبله، أما النصر الذي يزعمه فهو نصر كانتصارات البعثيين والمقاومين، نصر برائحة الموت، وبطعم الدم، وبلون الجراح النازفة، نصر على أرتال من الجثث، وصراخ الأطفال، وأنين الجرحى، ونحيب الأمهات.. نصر لا يحتفي به إلا الطغاة والإرهابيون أمثال بشار. وفي دولة الولي السفيه، شريك بشار في الإرهاب، تباهى قائد عسكري بتدمير حلب وعده فتحاً من الفتوحات الإسلامية! ماذا يمكن أن يقول القاتل لتبرير جريمته، سوى إضفاء أكذوبة شرعية على عمله الإجرامي، لا يصدقها إلا أمثاله من القتلة.