عندما انفجرت ثورات الربيع العربي، ظن الرئيس بشار أسد أنه بمأمن –أو هكذا أراد أن يفهم السوريون والعالم-من وصول كرة الثورة المتدحرجة من تونس إلى مصر وليبيا، من أن تصل سورية . لقد فشل بشار في قراءة نذر الثورة السورية منذ اليوم الأول لاندلاعها. فشل مرة أخرى عندما بدأ المنشقون في الجيش الحر برفع السلاح حماية للمتظاهرين السلميين، وأخطأ بشار الحساب وظن أنهم فقاعة يستطيع اطفاءها، لقلة عددها وضعف تسليحها، بأجهزته الأمنية كثيرة العدد والعدة، التي كانت تشكل جيشا آخر موازيا للجيش النظامي. وفشل بشار في فرص أخرى في أن يدرك خطأ حساباته! وكيف يفهم من اغتر بهتاف ببغاوات مجلس الشعب وهم يصرخون: بالروح بالدم نفديك يا بشار؟ وحين سالت الدماء وسقط الشهداء في درعا التي يعتبرها السوريون أقرب إلى النظام من غيرها من المدن السورية،فشل بشار أن يتصرف بحكمة. كان من المناسب أن يطيب خواطر أهالي أطفال درعا. لكنه "ترك الحبل على غاربه" إلى حماقة ابن خالته العقيد "عاطف نجيب" رئيس الأمن السياسي في درعا. وفشل كذلك حين عمت المظاهرات المدن السورية واستعصت على الأمن والشبيحة، فأوقع نفسه في الخطأ الاستراتيجي عندما زج بالجيش الوطني ليقاتل المتظاهرين. رفض الجنود أن يوجهوا سلاحهم نحو صدور إخوتهم المتظاهرين، فأطلق على الرافضين الرصاص من الخلف. في هذه الأجواء الملبدة والمحتقنة كانت سورية تدار بعقلية رئيس العصابة، ساعد في ذلك حفنة من أقرباء الرئيس احتكرت القرار، ويا ليته كان قرارا في بناء سورية، بل قرارا في تدميرها، حتى أن الأخضر الإبراهيمي قال في القاهرة بعد عودته من روسيا: "سورية أمام حل سياسي أو الجحيم". لكن كيف وصلنا هذا الجحيم الذي يحذر منه الإبراهيمي؟ باختصار نقول: ليس عن جدارة وصل بشار أسد إلى سدة الحكم في سورية بل لأنه ابن حافظ أسد الحاكم القوي الذي لم يدخر وسعا ليترك لورثته من بعده ملكا لا ينازعهم فيه أحد. وفي سبيل ذلك اقترف من الموبقات في حق الشعب ما لم يفعله حاكم من الحكام الجبابرة في القرن العشرين، ومدينة حماة خير شاهد على ما نقول. قد نتفق وقد نختلف عمن هو الأكثر توحشا من الآخر؟ حافظ أسد الذي دمر نصف حماة وقتل أكثر من 25.000 حموي في عام 1982، وهدم مساجدها كما اعترف بذلك "روبرت فيسك" الصحفي الوحيد الذي شهد تدمير مدينة حماة، وكان مندوبا لصحيفة التايمز اللندنية؟ أم وريثه بشار أسد الذي دمر أكثر من 300 ألف مبنى وقتل حتى الآن أكثر من 60000 سوري؟ فإذا سوينا بينهما في التوحش، فقطعا لن نختلف في أن بشار أسد لم يكن لديه المقدرة السياسية على الانحناء أمام العواصف السياسية العاتية، كما كان يفعل أبوه. المظاهرات المليونية التي اجتاحت حلب في آذار عام1980 أفزعت حافظ أسد فدار حول نفسه ما يقرب من180 درجة ليقف خطيبا في لقاء للشباب،على ما شهد بذلك "باتريك سيل" في كتابه "الصراع على الشرق الأوسط"، قال: (إن الإخوان المسلمين في سورية ليسوا كلهم مع القتلة، ولا خلاف لنا معهم إطلاقا بل نحن نشجعهم، ولهؤلاء الحق، بل وعليهم واجب أن يقترحوا علينا وأن يطالبونا بكل ما من شأنه خدمة الدين ورفع شأن الدين). لكن حافظ أسد الذي قال هذا الكلام التصالحي انقلب بعد ذلك على نفسه وأقام سوقا للمجازر في سورية للإخوان المسلمين وغيرهم، حين أصدر القانون 49 الذي يحكم بإعدام كل منتمٍ للإخوان المسلمين . طبعا كانت الظروف الدولية مواتية للتعمية على تلك المجازر، لأن حافظ أسد كان يخدم كل الدول الاستعمارية الشرقية والغربية التي يهمها قمع الشعوب. بالإضافة لمقدرته على الانحناء أمام العواصف والاستفادة من الظروف الدولية، فقد تمتع حافظ أسد بالمقدرة على السيطرة على أعوانه الذين قادوا المعركة ضد الشعب السوري. كما ضبط تطلعاتهم إلى الحكم مثلما فعل مع "رفعت أسد، الذي استغل مرض شقيقه حافظ أسد عام 1984 ليجعل من نفسه وريثا له قبل أن يموت، فنفاه خارج سورية بعد أن شفي من مرضه. إضافة إلى فقدان بشار أسد دهاء والده في سياساته الداخلية والدولية، فقد اكسب نفسه عداوات دول عربية لطالما مدت يدها لسورية في الأزمات. كما تورط بالإساءة إلى زعامات عربية، وتحالف مع إيران وحزب الله اللذين لا يحظيان بتعاطف الشارع العربي، كما تجاوز كثيرا من الخطوط الحمر. وكل هذا أفقده تعاطف الدول، حتى تلك التي كانت تقف إلى جانب والده. وعندما انفجر الشارع العربي بربيعه الذي ما يزال يزهر ورودا، وقع بشار في الخطأ القاتل عندما ظن أن الشعب السوري الذي روضه أبوه بالقتل والاعتقال والتشريد، ما يزال خائفا، ولن يجرؤ على الثورة على حكمه الفاسد الجائر، وكانت تلك خطيئته الكبرى. بدأت ثورة 15آذار 2011. وكبداية أي عمل جاد يكون صغيرا ثم ينمو كما تنبت الشجرة التي تصبح عملاقة تستعصي على الاقتلاع. لكن بشار أسد رفض الوصول مع الشعب إلى منتصف الطريق "بحيث لا يموت الذئب ولا تفنى الغنم". عندما أدرك أخيرا أن عليه أن يفرمل ويتراجع كان عليه أن ينسحب، لكنه بقي يناور فطلب من نائبه فاروق الشرع ورئيس وزرائه وائل نادر الحلقي أن يتكلما كلاما مواربا لكن الثوار رفضوا مجرد السماع لكلامهما، لماذا؟ فبعد سقوط أكثر من 60000 شهيد، عدا عمن لم تستطع الأممالمتحدة إحصاءه. كان الشعب في سورية قد "شب عن الطوق"، وقطع أشواطا طويلة على طريق الحرية، ولم يعد يقبل بأنصاف الحلول ولا أن ينظر للوراء، وأنه لا بد من استعادة حريته كاملة وأن تكون له دولة ديمقراطية على كامل التراب السوري. وقبل ذلك كله على بشار أن يرحل عن سوريا طوعا أو كرها، بعد أن تلطخت يداه في دماء السوريين. فهل يدرك بشار أسد ذلك ويرحل قبل أن يسبقه القدر؟ أم أنه سيبقى يناور ليدركه مصير أسوأ من مصير "القذافي"؟