سطور المشاهير سيرة رجال ونساء وقفوا مخلصين خلف منجز بلادهم.. وتاريخ يروى لجيل اليوم حفاظاً على وحدة وطنهم واستقراره. مشوار طويل قطعه عبدالله باشا باناجة، من جدة إلى المنفى، ثم إلى استنابول ومصر، ابتدى هذا المشوار حين هاجر إلى «الاستانة» استانبول ومارس تجارة المجوهرات وبيع الذهب واللآلي ذات التصاميم الفاخرة والمميزة، حينذاك قربه السلطان عبدالحميد ومنحه الباشوية، لذا كان من أوائل من حصلوا على الوسام العثماني، وبعد عودته لمسقط رأسه شيد قصوراً لعائلته في جدةومكةوالطائف، ومصر، من أبرزها مقصورة آل باناجة بجدة الملاصقة لمسجد الحنفي وقاعة كبرى، لاستقبال الملوك والوزراء وعامة الناس، وكان الملك عبدالعزيز يستقبل المواطنين والأهالي والوجهاء بتلك القاعة يناقش معهم احتياجات الأهالي والخدمات التي تحتاجها المدينة، وتعتبر قاعة أو مقصورة باناجة من أبرز المعالم التراثية لمدينة جدة، خلال القرن الماضي. كما كان قصره في مكةالمكرمة الذي يقع في مواجهة الحرم نزلاً للعديد من الزعماء والبشوات، أما قصره في الطائف فقد كان الأهالي يطلقون عليه (الباخرة) لكونه صمم على شكل باخرة، إضافة إلى قصرة بعباسية مصر وعقاراته فيها، وأملاكه العقارية بجدة، التي استأجرتها بعض القنصليات لاسيما تلك المواجهة لساحل جدة.. رحلات متعددة وتجارة متنوعة هي أبرز ملامح سيرة الوجيه عبدالله باشا باناجة رحمه الله.نشأته ولد عبدالله باشا باناجه عام 1270ه، بمدينة جدة، وانتقل مع والده يوسف باناجه الذي نفي إلى قبرص بعد الأحداث الشهيرة حيث داهم الأهالي القنصلية البريطانية في جدة وتعود قصة نفيه إلى واقعة مفادها أن القنصل الإنجليزي، قد وضع العلم العثماني تحت قدمه في إحدى البواخر الراسية في الميناء، مما أثار غضب الناس حيث يشكل ذلك إهانة للمسلمين فقتلوه وقتلوا معه القنصل الفرنسي وبعض الأجانب الغربيين المقيمين في جدة، وعلى إثر ذلك أرسل الأسطول الإنجليزي بعض القطع العسكرية إلى جدة، وأطلقت بعض القنابل على المدينة، فألحقت الخراب ببعض أجزائها، فقامت الحكومة العثمانية بإجراء تحقيق في الحادثة، وعاقبت القائمين والمحرضين، بالقتل أو النفي وكان يوسف باناجه رحمه الله ضمن المنفيين. وعودا على عبدالله باناجه فقد تلقى شيئا من التعليم في قبرص، وبعد وفاة والده عاد مع والدته وأخيه عبدالرحمن إلى جدة، ولكنه سرعان ما شد الرحال إلى أستنبول بعد اختلاف في وجهات النظر مع أخيه محمد الذي كان يدير شؤون العائلة. الخطوة الأولى نحو المجد انطلقت عصاميته وحياته التجارية، حيث اشتغل بتجارة المجوهرات واللآلي والأحجار الكريمة، وكان سوق المجوهرات رائجا في استانبول خلال تلك الفترة، ولاعتنائه بانتقاء المجوهرات الثمينة واهتمامه بحسن تنسيقها وجمالها، فقد لفتت بضاعته أنظار الكثيرين، وحظي بسمعة طيبة في سوق المجوهرات، ولم يمض وقت طويل إلا وعمل في بلاط السلطان عبدالحميد، ومن ثم عينه السلطان في مجلس المبعوثان، ومنحه الباشوية الرفيعة فاصبح اسمه (عبدالله باشا باناجه)، وللمؤرخ محمد علي مغربي رحمه الله تعليق حول باشوية عبدالله باناجه فيقول (وهو الوحيد فيما أعلم من أهل الحجاز الذي حصل على هذه الرتبة الرفيعة، بما لها من امتيازات وأوسمة باستثناء بعض أشراف مكةالمكرمة الذين منحت لهم رتبة الباشوية من السلطان في ذلك الزمان)، وفي استنبول تزوج عبدالله واستقر لفترة ليست بالقصيرة، وكان منقطعاً عن أهله في جدة، وبعد وفاة أخيه الأكبر محمد عميد العائلة، عاد عبدالله إلى وطنه، وأصبح هو رئيس العائلة كما ذكر المغربي في أعلام الحجاز. مقصورة آل باناجه وأثناء عودته كانت العائلة تسكن في بيت صغير في منطقة سوق الندى، فقام عبدالله بشراء البيوت الصغيرة المحيطة والمجاورة لبيت العائلة، وأرض أخرى عبارة عن فناء خالية مهملة، فاستصلحها وقام ببناء بيت كبير للعائلة، وبنى حوله المخازن الخاصة بالبضائع، وفي الأسفل مكاتب للعمل التجاري، وأعلاه خصصه للسكن، كما قام بشراء بيت صغير ملاصق بمسجد الحنفي الذي أنشيء عام 1240، ثم أضاف مقصورة للصلاة ، وشيّد أيضا صالة فاخرة كملحق مع المقصورة وكان آل ناجه يستعملون المقصورة لأداء صلواتهم اليومية، وكانت هذه المقصورة كما يصفها معاصروها معلما وملتقى لأهل العلم والأدب والولاة والحكام والأعيان، كما كانت بمثابة منتدى ومجلساً عاماً للأهالي بمدينة واستقبلت عدد من الشخصيات التاريخية ووجهاء جدة كالشريف حسين بن علي ملك الحجاز، وابنه الشريف علي بن الحسين، وكذلك الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه والملك فاروق ملك مصر حين زيارته الأولى للحجاز، وكذلك السلطان القعيطي سلطان حضرموت، وأيضاً كان عبدالله باناجه يستقبل في هذه الدور لا سيما في فترة الحج الضيوف والوجهاء والأمراء والملوك. ويقول المؤرخ محمد علي مغربي رحمه الله في ترجمته للشيخ باناجه (ولقد رأيت الملك عبدالعزيز رحمه الله يصلي في مقصورة آل باناجه وعلى باب المقصورة يقف رجل شاهرا سيفه ومن خلف جلالته يقوم الحرس شاهرين سيوفهم) وقد اكتظت الشوارع بالناس أثناء مرور موكب الملك عبدالعزيز، فقد خرج ماشيا من بيت نصيف بعد اول صلاة له في جدة، تتقدمه رجاله والحرس الخاصين به، ومن خلفه عدد كبير من الرجال، وهم يحملون أسلحتهم، وكان آل باناجه قد استعدوا لاستقبال الملك، حيث كان الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه يلتقي بوجهاء وأهالي جدة بهذه المقصورة ليناقشهم بما يعود على الجميع بالمصلحة العامة وقال الشيخ سليمان أحمد علو، إمام مسجد الحنفي: في حديث سابق لصحيفة «الرياض» (إن هذا المجلس لم يتغير فيه شيء منذ كان الملك عبدالعزيز يجلس فيه، حيث يستقبل فيه أهالي وأعيان جدة آنذاك، ويلتقي فيه بأهل الرأي والمشورة، ويتقدم إليه الناس بمعارضيهم وطلباتهم التي كان الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه يأمر في الحال بتلبيتها ويأمر رجاله بتنفيذها على وجه السرعة) ولذا فإن قاعة أو صالة باناجه ظلت من المعالم الأثرية في جدة خلال القرن الماضي، ولم يقف توسع عبدالله باناجه في بنائه وشرائه للدور على ما اشتراه في مدينة جدة بعد عودته من اسطنبوا بل اشترى رحمه الله قصرا في مكةالمكرمة، يقع في مواجهة الحرم الشريف أمام باب علي في منطقة الصفا، وملحق به بيت صغير يفتح على شارع القشاشية، وكان الخديوي عباس قد نزل بهذا القصر عندما قصد الحج، وكذلك السلطان القعيطي الذي كان يحكم شرق حضرموت وكانت سفنه وبواخره تملأ فضاء الهند وبلاد جاوه وذلك حينما أدى القعيطي مناسك الحج، وكان قصره مشرعا طيلة العام، يولونه اهتماما، ولم يقتصر دور هذا القصر على استقبال الضيوف وكبار الشخصيات بل كان مقراً للنشاطات الاجتماعية والأماسي الأدبية وملتقى للندوات والاجتماعات التي يقيمها أهالي مكةالمكرمة لاسيما في مواسم الحج والعمرة، ومن ذلك فقد أقام أدباء مكة حفلة تكريمية للشاعر خير الدين الزركلي. ولشغف عبدالله باناجه ببناء الدور والقصور فقد شيد قصرا في مدينة الطائف على الطراز التركي، وكان على شكل باخرة ويقع في منطقة السلامة وكان الوالي التركي أحمد راتب باشا ينزل فيه إذا ذهب للطائف للاصطياف، وكما اهتم باناجه ببناء الدور فقد اهتم بشراء العقارات وتوسع في شراء الأراضي والأملاك وعرف بحسن تدبيره وجودة إدارته للأملاك العقارية، ولذا فقد شيدت بيوته وفق أفضل معايير البناء آن ذاك، وكان خبيراً في اختيار الأماكن الجذابة ولهذا تجد معظم أملاكه العقارية ومنازله الواسعة تحتل مواقع متميزة وكان حريصاً أن تطل قصوره لاسيما التي في مدينة جدة على البحر مما زادها جمالها وغلاء سعرها وحرص التجار والعقاريين على شرائها، كما حرصت القنصليات الأجنبية فيما بعد على اختيارها كموقع لمكاتبها في مدينة جدة، واتخذتها القنصليات مقرا لها، إضافة إلى البيوت الصغيرة التي قام الباشا عبدالله باناجه بشرائها، وتأجيرها على أكثر من جهة، يذكر أن الباشا عبد الله لم ينجب طيلة حياته، فآلت أملاكه بعد وفاته إلى شقيقه وشريكه الشيخ عبدالرحمن باناجه. استقراره وأملاكه في مصر كان الباشا عبدالله باناجه على صلاة جيدة بأمراء مكة من الأشراف، إلى أن ولّي الشريف الحسين بن عليها، فقرر عبدالله باناجه الهجرة إلى مصر خشية أن تعود علاقته الجيدة مع الأتراك عليه بالتضييق، وخاف أن يحاسبه الشريف الحسين بن علي على ذلك، لذا فقد وظف ابن أخيه أحمد أفندي باناجه وكيلاً عنه، والذي مالبث الشريف الحسين بن علي أن عينه وزيرا للمالية، وكان يطلق عليه الوزير الحضرمي، وكعادة عبدالله با ناجه فقد استمر في شراء القصور حتى وهو في مصر وهناك اشترى منزلا كبيرا وفاخرا بالعباسية وهي المنطقة التي يسكنها ويجتمع فيها تجار مصر ووجهاؤها، وترك باناجه منزله مشرعا كما كان يفعل في جدة لاستقبال أصدقائه القادمين من الحجاز، كما ألحق فيها داراً للضيافة، وخلال فترة الانتقال السياسي في الحجاز الذي تزامن مع دخول الملك عبدالعزيز الحجاز، انتقلت الأسرة بكاملها إلى مصر، ثم عادت إلى الحجاز بعد أن استقرت الأوضاع، واستغل باناجه فترة مكوثه في مصر لتوسيع تجارته فيها فاشترى الدور والأراضي والعقارات المطلة على نهر النيل. وفاته توفي عبدالله باشا باناجه رحمه الله بمدينة القاهرة عام 1344 للهجرة بعد أن بلغ 80 من عمره بعد حياة حافلة بالتنقل والترحال ولأنه لم يترك ذرية فقد انتقلت أملاكة للورثة الشرعيين لاسيما شقيقه وشريكه عبدالرحمن رحمه الله رحمة واسعة. عبدالله باشا باناجه ولد باناجه في جدة عام 1270ه عمل باناجه في تجاره المجوهرات وبيع الذهب وتنقل كثيراً بين جدة واسطنبول وقبرص ومصر بدأ باناجه حياته في تجارة الذهب واللؤلؤ إعداد - منصور العساف