قرأت أن هناك مناقشات محتدمة في فرنسا حول الاحتجاجات التي اجتاحت مدينة (فيلير كوتريه) -مسقط رأس ألكساندر دوماس- بشأن نقل رماد مؤلفهم إلى "البانتيون" في باريس، أخشى أنه في إيطاليا كانت لتقوم مثل تلك الاحتجاجات أيضا إذا ما تم دفن هذا الروائي العظيم الذي يحظى بشعبية كبيرة لديهم (مع قدر قليل من التوسع لننسب إليه هذا النوع من الاحترام) إلى جانب أولئك الذين تم احترامهم بموجب درجة علمية، لكن في الحقيقة نحن لسنا الوحيدين الذين يعانون صعوبة في التمييز بين الأدب وبين ما يسمى بالروايات الخفيفة. الروايات الخفيفة بالتأكيد متواجدة على الساحة وهي تضم على روايات بوليسية غامضة أو روايات رومانسية من الدرجة الثانية، والكتب التي تقرأ على الشاطئ، تلك الكتب التي تهدف إلى الإمتاع فقط، وتلك الكتب لا تعنى بالأسلوب أو الإبداع، ولكنها في المقابل تحقق النجاح نظرا لحقيقة كونها متكررة وتتبع نمطا يحقق المتعة للقارئ. إذا كان هذا هو الحال، فهل كان "دوما"يهدف إلى كتابة الروايات الخفيفة؟ أم أنه لم يكن يشغل باله بمثل هذه الأمور، كما ترجح بعض كتاباته النقدية والمثيرة للجدل؟ لقد امتلك من "المريدين" الذين ساعدوه في كتابة العديد من الكتب، وقد كان يكتب بإسهاب لكسب المزيد من المال، لكنه تمكن في بعض أعماله من ابتكار شخصيات يمكن وصفها بأنها "أسطورية"، والتي سكنت مخيلة الجميع، وتم نسخها وإعادة روايتها؛ كما يحدث مع تلك الشخصيات الأسطورية وأبطال القصص الخرافية. وقد نجح أحيانا في خلق أسطورة استنادا إلى قدرته الأدبية الخالصة: فرواية "الفرسان الثلاثة" سريعة، تقرأ كما لو كانت مقطوعة من موسيقى الجاز، وحتى عندما أفرز تلك الحوارات التي أعرفها بأنها "حوارات تدريجية" :صفحتان أو ثلاث صفحات من المزحات القصيرة التي لا داعي لها (التي يسردها بدافع الإطالة فحسب) كتبها "دوما" تحت تأثير البوليفاردير. وماذا عن "الكونت دي مونت كريستو"؟ لقد كتبت سابقا عن كيف قررت ذات مرة أن أقوم بترجمة تلك الرواية، وقد وجدت بها عبارات مثل: "وقام من الكرسي الذي كان يجلس عليه"، حسنا، ومن أي كرسي آخر كان يجب أن يقوم إذا لم يكن من ذلك الذي كان يجلس عليه؟ ولذلك فإن كل ما قلته في ترجمتي كان "وقام من الكرسي" أو حتى "نهض" فقط، حيث إنه من الواضح بالفعل أنه كان جالسا على الطاولة. وظننت أنني قد وفرت على القارئ 25% على الأقل من وقت القراءة باختصاري للغة "دوما"، لكنني أدركت بعد ذلك أن تلك الكلمات الإضافية وتكرارها كان لها بالفعل وظيفة إستراتيجيه أساسية؛ حيث خلقت توترا وترقبا، كما أخرت الحدث الأخير وكان لها دور جوهري في صقل حبكة التأثر الممتازة بهذه الطريقة الفعالة. وتتضح قدرة "دوما"الروائية العظيمة اليوم من خلال إعادة قراءة مؤلفات معاصرة "أوجين سو"، الذي كان آنذاك أشهر من "دوما"، فإذا ما أعدنا قراءة رواية "أسرار باريس" والتي أنتجت هستيريا جماعية من خلال تحديد الشخصية، كما قامت أيضا بتقديم حلول اجتماعية وسياسية، ندرك أن الكلمات والعبارات المضافة تجعل الكتاب أثقل من الرصاص في القراءة، ومن ثم يمكننا أن نقرأه على أنه وثيقة فقط، وليس كرواية كما أريد له أن يكون. ولذلك فهل ثمة فضائل في الكتابة لم يتم تحديدها بالضرورة في الإبداع اللغوي، ولكنها تمثل جزءا من الإيقاع والجرعة الألمعية لتعبر الحدود الدقيقة ما بين الأدب والرواية الخفيفة؟ إن الرواية كالأسطورة تبدأ باللغة، بمعنى أن "أوديب" أو"ميديا"هما ببساطة شخصيات نموذجية ومثالية بسبب أفعالهم حتى قبل أن يصبحوا من التراجيديا الإغريقية العظيمة، وبالمثل تعتبر "ذات الرداء الأحمر" أو شخصيات الأساطير الأفريقية أو أساطير الهنود الحمر نماذج لحياة تتجاوز الشعر، تسيطر عليهم وتخلق طبقة أخرى منهم. هل يجب أن تتعمق الرواية في سيكولوجية أبطالها؟ بالتأكيد تحقق الرواية الحديثة ذلك، بيد لا تتقيد الأساطير القديمة بالأمر ذاته؛ حيث تم استخلاص سيكولوجية "أوديب" على يد "اسخيلوس" أو "فرويد"، لكن الشخصية كانت ببساطة هناك، مرسومة بطريقة نقية ومثيرة للقلق بشكل رهيب. وقد دفعنا خاصة في إيطاليا إلى تعريف الرواية بالنثر كفن وبجولة شعرية قصيرة وهي نوع من "الشعر"، ومع ذلك فقد استخدم "ستاندال" النثر في القانون المدني، وقيل إن "إيتالو سفيفو" يكتب بشكل سيء، وإذا كنا نريد شيئا "شعريا" فثمة المزيد من الشعر في "ليالا" أكثر مما هو موجود في كتابات "ألبرتو مورافيا". وتكمن المشكلة في أن الرواية يجب أن "تحكي قصة" وتحيي شخصيات نموذجية حتى وإن كانت لا تصف سوى سلوكهم الخارجي، إن سيكولوجية شخصية "دار تانيان" مسلية، لكن الشخصية أصبحت أسطورية، بينما تعد سيكولوجية "جوليان سوريل" معقدة، ومن ثم فأنا أوافق على أنه ثمة فرق بين الرواية التاريخية التي تساعدنا على فهم عصر كامل من خلال أبطالها، وبين رواية "العباءة والخنجر" التي تقع أحداثها في فترة زمنية معينة لكن يمكن أن تحدث ببساطة في حقبة أخرى وتظل محتفظة بنفس القدر من الجاذبية والإمتاع. لكننا هنا لسنا بصدد الحديث عن الأعمال الفنية التي لا يوجد خلاف على عظمتها وكثافة طبقاتها، بل نتحدث عن الكتابات الأسطورية التي تعد شيئا مختلفا تماما، وقد أسهب كل من "بيار سوفاستر" و"مارسيل ألان" أيضا بشكل أساسي في أعمالهم لكسب المزيد من المال، وبيد أن قصصهم عن"فانتوماس" ليست مثالا على الكتابات العظيمة، فقد أصبح الرجل أسطورة المناطق الحضرية التي أغرم بها السرياليون وغيرهم، ومازال "بيير أليكسيس بونسون دو ترايل" يمتعنا بأعماله ولكنه لم يصبح يوما أسطورة. الكساندر دوماس البرتو مورافيا