ما قدّمه ابن خلدون للعرب من وصف وعلاج، وداء ودواء، يبعث اليأس في النفوس، ويُحرّك مياهه فيها، فداؤنا عنده قارّ ثابت، ودواؤنا عارض طارئ، داؤنا أننا أمة بدوية وحشية، بها ميل جبلي إلى الفرقة والاختلاف، والنزاع والتنازع، ودواؤنا آتٍ من الدين الذي طهّر أنفسنا، وجمع كلمتنا، وانتزع أسباب فرقتنا، فصرنا به أمة، تسوس الدول وتقود مجتمعاتها، حتّى إذا ضعُف في نفوسنا أثر الدين، واختفى دوره أو كاد؛ عُدنا إلى ما كان عليه من بداوة وتوحش، وصرنا إلى أصلنا الثابت، وسمتنا القار، ونسينا ثقافة سياسة الملك، وغابت عنا القدرة عليها. العرب عند ابن خلدون بين دين وبداوة، دين يُصلح نفوسهم لقيادة الملك، ويُمكّنهم من المعرفة بأسباب صلاحه، وبداوة تدفع بهم إلى التوحش، وتنزع عنهم القدرة على السياسة، وتُعيدهم إلى ما كانوا عليه من حال تتصادم مع الملك وأسباب بقائه؛ فمصيرهم مرهون بهذا الثنائي، لا يستطيعون عنهما حِولا، ولا يملكون غيرهما مسلكا؛ إن أقبلوا على الدين، وهشّت نفوسهم إليه؛ ملكوا زمام السياسة، واستطاعوا قيادتها، وإن تركوه وأدبروا عنه؛ ساءت أحوالهم، ورجعت إليهم بداوتهم. يبدو من حديث ابن خلدون وخطابه حول العلاقة بين الدين وسياسة الملك أنه لا يقصد جماهير العرب وعامتها، وإنما يريد نخبتها في عصره، وهذا يقود إلى اعتقاد أنه لم يكن مشغولاً بالأمة العربية نفسها، وإصلاح حالها، وإنما كان مهموماً بنخبتها، وكيف خسرت الملك، وفقدت تسييره.. يقول ابن خلدون عن طباع العرب: "فبُعدت طباع العرب لذلك كله عن سياسة الملك، وإنما يصيرون إليها بعد انقلاب طباعهم وتبدّلها بصبغة دينية تمحو ذلك منهم" (المقدمة، 152). هذا النص يُظهر لنا أن الرجل كان مشغولا بالملك وسياسته، ولم يكن معنيّا بالعرب عامتها وجماهيرها، ولا كان باله إلى إصلاح ثقافتها، وردم الخلل الذي كان سائدا في عصره فيها، فشغله الشاغل رحمه الله كان منصرفا إلى سياسة الدولة وإدارة الملك، ومن معاني هذا أنه كان يشتكي النخبة العربية، ولا يتجه إلى إصلاح الثقافة، وعلاج أدوائها. ويعود ابن خلدون إلى الحديث عن العلاقة بين الدين وسياسة الملك مرة ثانية قائلا: "ثم إنهم بعد ذلك انقطعت منهم عن الدولة أجيال نبذوا الدين فنسوا السياسة، ورجعوا إلى قفرهم وجهلوا شأن عصبيتهم مع أهل الدولة". فيصف تلك الأجيال بأنها نبذت الدين، وتركت الانقياد إليه، وجرّ ذلك عليها أن نسيت السياسة، وغابت عنها أصولها، وحديثه هذا يؤخذ منه ثلاثة أشياء؛ الأول أن العرب أمة لا تستطيع قيادة الملك وإدارة السياسة إلا بالدين، والثاني أنها أمة نبذت أجيال منها الدين فنسيت السياسة، والثالث وهو الأخطر في ظني تأسيس ابن خلدون لفكرة استغلال الدين في الدعوات السياسية، وهو الذي يشتكي منه العرب المسلمون اليوم، ويرجع إليه كثير من تحدياتهم، وبه أصبح الناس ينتخبون مَنْ يُحدّثهم عن الدين في إدارة دنياهم، ولعل ابن خلدون لو التفت إلى السلاح الذي وضعه في أيدي مستغلي الدين؛ ما كان ربط بين السياسة والدين، وأشعر قارئه أنّ من وظائف الدين أن يُبصّر أصحابه بالسياسة، ويدلّهم على أرشد سبلها. ابن خلدون في حديثه عن العرب كان مشغولا بالملك وسياسته، والأمر الذي أزعجه، وأقلق باله، هو كيف نسي العرب الملك، وغابت عنهم سياسته، وضعفت في عصره دولهم، هذه هي قضية ابن خلدون، فلم يكن يُفكّر خارج عصره، ولا كان مهموما بثقافة العرب من حوله، وكان سعيه كله في البحث وراء هذه القضية، والإجابة عن أسئلتها من مثل: لماذا فقد العرب القدرة على السياسة؟ وما الذي جعلهم يضعفون بعد قوتهم، ويفترقون بعد اجتماعهم؟ وكان رأيه بعد ذلك أن قضية العرب، قوتهم وسياستهم للملك وضعفهم وفشلهم فيه، راجع كله إلى عنصرين؛ الأول الدين، والثاني البداوة، وهذه الصورة التي يُقدّمها ابن خلدون للعرب في عصره مشكلة لأمرين؛ أولهما أن الدين الذي يتحدّث عنه لم يعد الدين مثلا الذي تحدّث عنه الفاروق حين قال: "إنا قوم أعزّنا الله بالإسلام فلن نلتمس العز بغيره"، فقد كثرت المذاهب والفرق، ولم يعد للإسلام معنى واضح في أذهان العرب، وحينها يكون ابن خلدون أحال العرب إلى أمر غامض وشأن غير بيّن، وثانيهما أن الرجل يتحدّث إلى العرب في سياسة الملك وتدبيره على أنها مسألة جماهيرية، وأنهم فقدوها حين فقدوا الدين، والذي يغلب على الظن أن سياسة الملك أمر يعود إلى نخبة من العرب، ويرجع إلى طائفة منها، وهذا يُخرج الرجل من دراسة حال الأمة العربية إلى دراسة حال النخبة، ويكون في قوله عيبٌ للنخبة العربية في عصره، وكأنه بهذا يُحمّل النخب ما جرى به التأريخ، وانتهت إليه الحال، ويجعلهم بين أمرين؛ دين يُعينهم على السياسة، وبداوة تحرمهم منها، ويكون تقريره هذا رسما واضحا لاستغلال الدين، والاستفادة منه. يبدو من حديث ابن خلدون وخطابه حول العلاقة بين الدين وسياسة الملك أنه لا يقصد جماهير العرب وعامتها، وإنما يريد نخبتها في عصره، وهذا يقود إلى اعتقاد أنه لم يكن مشغولا بالأمة العربية نفسها، وإصلاح حالها، وإنما كان مهموما بنخبتها، وكيف خسرت الملك، وفقدت تسييره، يقول مرة ثالثة حول هذه الفكرة نفسها، وفي الفصل عينه من مقدمته: "لكن بعُد عهدهم بالسياسة لمّا نسوا الدين، فرجعوا إلى أصلهم من البداوة"، وظاهر حديثه أنه لا يقصد العرب عامتها، ولا يروم منها جميعا أن تعرف السياسة وتدرك معانيها، وإنما يألم مما يراه من نخبتها، ويبصره من رجالاتها، وهذا كله يُخرجه من الحديث عن العرب وثقافتها، ويجعله منصرفا للنخب العربية، وساعيا في إصلاحها بالدين، وتحذيره من أضداده، وهي دعوة لم تعد كثيرة الجدوى بعد أن أصبح الدين طرائق قددا، وكان ابن خلدون الفقيه المالكي أقرب الناس إلى إدراك هذه القضية، غير أنه لم يرد النظر إلى المسألة من خلال هذا التحدي الكبير، فطرح الدين كمنقذ، ونسي أنه قبل زمنه كانت الأمة العربية قد افترقت، وتعددت مذاهبها، وأصبحت تختلف في فهم الدين الذي يُمكنها من السياسة، ويُنقذها من عوائدها المضادة لها، وصار الدواء على أيديها داء جديدا، تبحث له عن دواء، وتُقيم المؤتمرات من أجله.