قلما توفرت في الكرة الأرضية قاطبة مثيل الحناجر الجميلة النابتة في أرض الحضارات الكبرى، أي: الهلال الخصيب والجزيرة العربية والشمال الأفريقي. وإن يكن هذا من قبيل الفخار، فعلى مدار هذه الأرض بعض الحناجر تظهر من حاجة، والأخرى بالعادة، وإنما أوهبت هذه الجغرافيا، ولو على مستوى ما حفظته أجهزة التسجيل في القرن العشرين، ما يجعلها تفضل سواها. ودليلها لدينا نماذج عديدة، بعضها ذوات تجربة ثقافية سكنت الذاكرة، وبعضها الآخر عبرت على عظمتها من الناحية الخلقية إلا أنها دون حسن التصرف، ومن تلك الحناجر تفضل بما لها من رنين عال حتى تنتهي مادة صوتها من التشغيل فتبقى دائرة في الأذن صدى يرن ويرن. ولهذا الرنين سبب يرد إلى طبيعة الصوت الخلقية لكونها تنتمي إلى ما يتوفر لها من طبقات ومساحات "درجات وأزمنة" تجعل من صوت الأنثى -الندي- ومن صوت الرجل -الصادح- فتكسبها رنيناً عالياً منذ عملية ضخ الهواء وتكوير الفم تمديداً -حرف الواو والياء والألف- بحسب درجاته، وصورة النغمة وبنية الجملة. ومن تلك الحناجر التي أوهبت الكرة الأرضة وبقي رنينها على غيابها، فمن نسائيها: الكبيرة أسمهان "1912-1944"، والرائعة ليلى مراد "1918-1995"، والسيدة وردة "1939-2012"، ورجاليها: الكبير سليم هلالي "1920-2005"، والجهوري نصري شمس الدين "1927-1983"، والصداح طلال مداح "1940-2000" ويختم تلك الأصوات صوت ملحم بركات "1945-2016". حكاية ملحم بركات يعرفها الجميع وتتبعها. حكاية البدايات رفقة فيلمون وهبة ومدرسة الأخوين رحباني، وتلك المشاركات التي يتدرج فيها أي صوت من الجموع حتى مزايا الانفراد. فقد أودع في بركات وعياً بذاته لإرسال النغم حيث صار من تلك المواهب التي جمعت إلى موهبة الأداء "والغناء والتطريب" موهبة التلحين، وهذا ما دفعه بمصاف من تركوا آثارهم في ذاكرة الغناء العربي، ولا ينسى حضورهم المكرس سينمائياً مثل: محمد عبدالوهاب "1902-1991"، ومحمد الجموسي "1902-1982"، وملك "1902-1982"، وفريد الأطرش "1910-1974"، ولور دكاش "1917-2005"، ومحمد فوزي "1918-1966"، وأحمد وهبي "1920-1993"، ويعاصرانه كل من أبو بكر سالم بالفقيه وعبد الوهاب الدوكالي. فقد تمكن الملحن بركات عبر حناجر أخرى أن يكتشف الملحن كما أنه يؤكد حق حنجرته أيضاً بتلك الألحان غير أن لم يؤثر صوته، فقد سخا على سواه كما أوفى حنجرته ما تحتاج.. ولم يوقف تلك الأنغام على جيل، فقد أعطى حناجر سبقته، وإن لم تفوق موهبته أو قدراته، مثل صباح أو وديع الصافي أو نصري شمس الدين، وإلى جيل لاحق مثل وليد توفيق وماجدة الرومي.. إن ما يمكن التوقف عنده من شخصية بركات، غير صفاته وطباعه الموازية موهبته وقدراته وخبراتها ومنجزاتها، ما أرساه من شخصية ثقافية مثلت لبنان بل فاقته لتمثل الثقافة العربية بكل عنفوانها الوجودي وقيمها الفروسية، ومحبتها إلى الحياة وجلدها على مكارهها. ففي الصوت سجل تلك الشخصية العنيدة، والجسورة التي تطبعت برسي الجبال وحفيف الشجر، واضطرام الموج، ورحابة الأفق.. إن التمثل بأغنياته لهو دليل على الحنجرة، ليس في قدراتها المتفوقة والجبارة، بل في شخصيتها الجامعة ملامح التراث الثقافي المتوسطي في استيعاب المتعدد، وطباع التراث الثقافي في الهلال الخصيب باضطرابه الدائم. فمن برنامج "ساعة وغنية" "1979" للأخوين رحباني ذلك الموال: "واسم هيفاء يا زمانَ الولوعِ وارتحالاتٌ يا بغير رجوعِ.. شهد الله ما ذكرتك إلا سبقتني على الكلام دموعي" ومن مسرحيته "ومشيت بطريقي" "1995" أعلى تعبيراته في أغنية "كيف": "صعبه الغلطه عندي صعبه لا تفكر ترسملي قلبي طفل وراكض خلف اللعبه عاحفاف الرصيف كيف؟ كيف؟" مضى الجسد في اللعبة واستعلى الصوت على الزمن أجمعه..