مطلع القرن العشرين تشكلت صورة المجتمع العربي من خلال رموز الثقافة سواء في الفنون والآداب. ووفاة صباح التي تركت تراثها الثقافي الصوتي والقولي والحركي، الذي لم يكن ثقافياً بل تعدى إلى المجال الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. إذا كان التاريخ الثقافي للمرأة العربية تبدى لحضورها خارج المجالس النسائية نحو خشبة المسرح فقد كان في تجارب التمثيل المسرحي لأول مرة مع محاولات كل من أبي خليل القباني عبر فتيات ينتمين إلى الطائفة العربية اليهودية أولاهن ملكة سرور ومريم سماط وعرف لاحقاً منهن: ألمز أستاتي ابريز أستاتي وردة ميلان ماتيل نجار نظلى مزراحي صالحة قاصين، غير أن الذي يحسم الأمر بأن الموهبة هي من تفرض نفسها في كل حقول الثقافة. فلم تكن تلك الفتيات سوى محاولات غير مجدية لسد فراغ العنصر النسائي الذي لا يتطلب حضورهن فقط بل التوافر على موهبة وتعليم وتدريب وحضور وفرص وطموح ناجز. فقد شكل ظهور ثلاث سيدات بين القرن التاسع عشر والعشرين أسهم في تكريس "الخروج من الحرملك" أو "تمزيق الستائر"، وهؤلاء النساء الثلاث: توحيدة "لطيفة إلياس فخر من لبنان" المتوفاة عام 1933 التي هاجرت إلى مصر عام 1900 وعملت ممثلة ومغنية في مسرح الابتهاج ثم مسرح "ألف ليلة وليلة" وأسست مسرح "البيجو بالاس" وخلفت سفينة "طقاطيق الست توحيدة" (1924) وتعد أول امرأة تخلت عن العباءة وغطاء الوجه، والمصرية منيرة المهدية (1885-1965) بوصفها مغنية وممثلة وصاحبة فرقة مسرحية وموسيقية منذ أن ظهرت عام 1905 وأسست مسرح "نزهة النفوس" وعرفت مع فرقة عزيز عيد قبل أن تستقل بفرقتها الخاصة، وثالثتهن اللبنانية بديعة مصابني (1892- 1974) المغنية والراقصة والممثلة التي جاءت إلى مصر عام 1919 فأسست صالة بديعة مصابني التي عرف عن طريقها فن الأوبريت والاسكتش – مع الفرق الأجنبية الانجليزية والفرنسية والإيطالية – بالإضافة إلى أكثر من جيل يعد رموز الثقافة العربية في مصر منذ الربع الثاني من القرن العشرين مثل ماري جبران ولور دكاش وأسمهان وفريد الأطرش ومحمد فوزي ومحمود الشريف وتحية كاريوكا وسامية جمال. فقد شكلت كل من المطربة توحيدة وبديعة مصابني أوائل جيل الشاميات المهاجرات إلى مصر، وأدت كل واحدة منهن، مع منيرة المهدية، بالإضافة إلى أسماء أخرى من الممثلات اللواتي عرفن من الطائفة العربية اليهودية، الدور الذي أتاحته المتغيرات الاجتماعية والثقافية والسياسية مع بزوغ الحركة القومية والصراع مع الاستعمار الأوروبي (الفرنسي – الانكليزي –الإيطالي)، والثورة على السلطنة العثمانية، بالإضافة إلى التطورات المستجدة في المجال التعليمي والإعلامي والاقتصادي. ولعل تمأسس مسرح المنوعات، المخصص للأوبريتات والاسكتشات أدى إلى ظهور التمثيل المسرحي كما أن المشاركة الغنائية في المسرح هو ما نقل الغناء من المجالس المنعزلة الرجالية والنسائية أو جلسات الذكر أو أداء السيرة الشعبية في المقاهي والساحات إلى المسرح وأسهم في تنظيم صورة الفنان الذي ابتدأت تنفصل من خلاله تطورات الموهبة الواجبة عن القدرات المفترضة، فظهرت مسألة التخصص في الغناء والعزف والتلحين عن الرقص والتمثيل والإخراج. كذلك ظهور وتكريس وسائل البث والنقل كالإذاعة والأسطوانات حتى ظهور السينما ومن ثم التلفزيون. إذ تعد صباح من الجيل التالي الذي جاء مع فترة التحول في فصل المواهب والتخصص بحسب الوسائل، فمن بعد مجيء مطربات شاميات كبيرات أحدثن تحولاً ومنافسة في جيل الغناء وهن نادرة أمين (1906- 1990) وماري جبران (1911- 1956)، وأسمهان (1912-1944)، ولور دكّاش (1917-2005) بموازاة مغنيات مصريات مثل فتحية أحمد (1898-1975) وأم كلثوم (1898-1975)، وليلى مراد (1918-1995)، ورجاء عبده (1919-1999) عرفن في الصالات والمسارح –باستثناء ليلى مراد في السينما-. فقد ظهرت صناعة الغناء من خلال الإذاعة والمسرح وشركات الإنتاج الغنائي والسينمائي اللتي استطاعت عبر منتجات شاميات مثل آسيا داغر وماري كويني – مع يوسف وهبي الممثل والمخرج- في تشجيع انتقال مجموعة من الأصوات الشامية إلى مصر، مثل: نور الهدى ( 1924-1998)، وسعاد محمد (1926-2011)، ونازك (1928-1999) وصباح باستثناء زكية حمدان (1925-1987) التي لم ترحل إلى مصر وهي من جيلهن. تفاوتت تجربة كل واحدة منذ تمكنت كل واحدة من الظهور في أربعينيات القرن العشرين غير أنه تنازع هؤلاء الحناجر بين المدرسة المصرية والشامية. غلبت المدرسة المصرية على كل من نور الهدى وسعاد محمد ونازك حتى أنه عندما عدن إلى لبنان أكملن في ذات القوالب التقليدية كالموال والقصيدة والموشح مع بضع أغنيات لبنانية فارطة. بينما ظهرت عند صباح حالة من الانشراخ بين المرحلة المصرية واللبنانية. إذ أنها لم تكن تملك حنجرة مثل حناجرهن فهي تقصر عنهن بشكل كبير غير أن ما ساعد صباح بعد أفلام عدة كرستها وجهاً لطيفاً لم يحسب على المطربات ذوات القدر الكبير وإنما اقتربت من جيل المغنيات المزدوجات الموهبة بين الغناء والتمثيل وهو استمرار لمدرسة بديعة مصابني برز من تلك المدرسة هدى سلطان (1925-2006) ومن بعدها شادية (مواليد 1934). عرفت صباح منذ فيلم "القلب له واحد" (1945) مع أنور وجدي ثم كررت سلسلة أفلام تسعة حتى عام 1948 ولحن لها كبار الملحنين مثل محمد القصبجي ومحمد عبدالوهاب وفريد الأطرش ومحمد فوزي وحليم الرومي لكن كتب عنها تعليق ملفت في مجلة عراقية عن حفلة أقامتها في بغداد فوصفت بأن صوت المغنية "مبحوحاً، في كل الحالات أشبه بصوت الجنس الخشن، ولم يكن ذلك الصوت الناعم الرنان في الاستماع الذي سمعناه بالأمس القريب". وأنهى التقرير برأي صاحبه "صباح لا تصلح للمسرح إطلاقاً لخلوّها من الشجاعة الأدبية المتطلبة" و"إنها تصلح أمام كاميرا السينما وحدها". (مجلة الإذاعة ، بغداد، 1984). ورغم هذا أكملت صباح مسيرتها في السينما المصرية بألحان على قدر صوتها لكنها لم تجعل منها منافسة لمواطناتها مثل نور الهدى أو سعاد محمد ولا حتى ليلى مراد أو هدى سلطان، ورغم أنها شدت بأغنيات لشعراء وملحنين لبنانيين مثل شحرور الوادي ومواطنها المهاجر فريد غصن الغارق في المدرسة الحلبية غير أن الذي أنقذ صباح هو ذاته الذي أنقد وديع الصافي. لقد كانت مشورة حليم الرومي لوديع الصافي أن يغني الغناء الريفي –الدارج بمصطلح الجبلي- كما ساعد تلك الفترة ظهور مجموعة من الملحنين اللبنانيين سيضعون منذ منتصف الخمسينيات شخصية المدرسة الغنائية اللبنانية، وهم زكي ناصيف وتوفيق الباشا وعبدالفتاح سكر والأخوان رحباني. ساعد ظهور هذه المدرسة من اللحاق بصوت كل من وديع الصافي وصباح، بينما حاول توفيق الباشا مع ملحنين فلسطينيين مهاجرين إلى لبنان مثل خالد أبو النصر ورياض البندك من دعم أصوات نور الهدى ونازك وسعاد محمد وزكية حمدان ووداد ضمن إطار منقح من المدرسة المصرية وإعادتها إلى أصولها الحلبية – الحجازية في القوالب التقليدية. بينما خلقت اتجاهات التلحين عند زكي ناصيف وفيلمون وهبي والأخوين رحباني فرصة لإعادة تمدين الموروث الريفي فتمكن كل من صباح ووديع الصافي ونجاح سلام ونصري شمس الدين من الظهور والتكريس لصورة لبنان الأخضر الحلو. ولا ينكر قيمة فيروز التي جمعت بين المدرستين لكن بصورة حداثية وما بعد حداثية لاحقاً. انطلقت صباح في مهرجانات بعلبك عبر الاسكتشات والمسرحيات، أولاهن "موسم العز" (1960) التي وضعها كل من الأخوين رحباني ثم في فترة لاحقة روميو لحود ووسيم طبارة حتى فادي لبنان. لكن من المهم الإلفات إلى أن ألحان كل من فيلمون وهبي ووليد غلمية وروميو لحود المعتمدة على الموروث الريفي (الميجنا والعتابا والدبكة)، بالإضافة إلى المرجعية الحلبية في القدود والطقاطيق والموال البغدادي من أن تكون شخصية غنائية لصباح أسعفتها كما أن عنايتها الفائقة بالمظهر من تصفيف الشعر وتصميم الملابس، والخطوات الاستعراضية المعتمدة على خزين التراث الريفي اللبناني برقصات الحصاد والأعراس والصيد من أن تكمل الصورة التي عرفت عنها. ساعد ذلك عندما عادت إلى القاهرة فترة زواجها برشدي أباظة – أحد أزواجها التسعة- من أن تختار لها أغنيات وفق الشخصية اللبنانية خصوصاً التي وضعها لها فيلمون وهبي لكن بنكهة مصرية أنجح من فيلمون وهبي نفسه أسهم فيها كل من فريد الأطرش – في مرحلته اللبنانية- مثل "زنوبة، أكلك منين يا بطة، من الموسكي للحميدية، ألاقي زيك فين يا علي، حبيبة أمها ويا دلع دلع"، وسيد مكاوي في أغنية " يا ابن الحلال " من فيلم "العتبة الخضراء"(1959)، وبليغ حمدي بشكل فاعل في أغنيات شهيرة فترة السبعينيات مثل: أغنية "زي العسل" من فيلم "طريق الدموع" (1961)، وأغنيتين شهيرتين: "يانا يانا، عاشقة وغلبانة" من فيلم "كانت أيام" (1970) حتى الأغنية الخاتمة لمسيرتها إذ شكلت مفترق الطرق، وهي "ساعات ساعات" (عبدالرحمن الأبنودي – جمال سلامة) من فيلم "ليلة بكى فيها القمر" (1980)، برغم أنها ظلت تعمل لاحقاً في حفلات واستعراضات وظهور في مقابلات تعيد تدوير الأمجاد الفنية والأسرار الشخصية. تمثل صورة صباح جيلاً من رموز الثقافة العربية فترة التحولات العصيبة في السياسة والمجتمع والثقافة ما بين الارتكان والاستظلال تحت الهوية العربية في سردية "العروبة الثقافية" دون الإخلال بالجذور المحلية الشامية، وبين الهوية القطرية – أي اللبنانية- التي اشتعلت فيها صراعات الهوية ما بعد الاستعمارية من الأمراض الفرنكوفونية والطائفية. حاولت صباح أن تقدم صورة الفنان جميلاً في مظهره ووجوده دون التعريض بمكانة صوتها أمام حناجر كبيرة مثل نور الهدى وسعاد محمد أو حناجر – أصغر مساحة أعمق تمثيلاً- مثل فيروز ووداد غير أنها بين جيل وجيل عبرت عن أحد وجوه لبنان الضائعة وجه ابن الريف الجبلي الذي دخل المدينة فلم يعرف مكانه حتى إذا تدمرت المدينة تبقى له هويته الريفية بينما بقي للأصوات أثراً صوتياً عميقاً لم يتبق لصباح سوى ذلك الوجه الضائع. هو بالتأكيد أحد وجوه المجتمعات العربية، كالبدوية والريفية، الضائعة في المدن التي تجردها مما توهمت أنه ملكها لكنه الوجه الضائع. صباح ذات الوجوه الضائعة منها إلا وجهاً لم يسعفها كثيراً .. مراجع: *مقال " توحيدة مطربة ألف ليلة، حسين عثمان، مجلة الكواكب،14 فبراير 1956 *مقال "صباح التي على فرحٍ دائم"، محمود الزيباوي، محلث النهار الثقافي، 29/8/2010 *مقالة أوائل الممثلات.. في بدايات مسرحنا العربي، مظهر الشاغوري، جريدة الفداء، ثقافة، الأربعاء: 2-6-2010: