الفرق بين المجتمع المتقدم والمجتمع المتخلف ليس وجود مفكرين تنويريين هنا، وانعدام وجودهم هناك. الفرق يكمن في مستوى الاستجابة الجماهيرية، أي: هل تستطيع أن تحقق مستوى من التغيرات النوعية في الوعي الجماهيري يتغير معه الواقع أم لا؟ هل يستطيع الفيلسوف/المُفكّر/المثقف/الكاتب/الأديب/الفنان التنويري أن يكون جماهيريا؟ هذا سؤال يعكس معضلة كانت ولا تزال قائمة في مسيرة التطور البشري. هناك حقيقة يعرفها الجميع، وهي أن رحلة التطور/التقدم على امتداد التاريخ البشري لم تقم بها الأغلبية الساحقة من الشعوب في أي وقت من الأوقات، بل قامت بها "القلة النادرة" الخارجة عن السائد النمطي/المألوف. وفي المقابل، كانت الكثرة/الجماهير ضدها، تقف لها بالمرصاد في كل سبيل. بل وكثيرا من قُتلت، أو طُردت، أو اعتُقلت، أو اضطُهِدت رموز الحراك التقدمي على يد الجماهير الغاضبة مباشرة، أو بواسطة ممثليها من قساوسة وساسة وزعماء جماهيريين يمتلكون القدرة على فرض ما يريدون بواسطة الجماهير. التنوير يرتبط - عضويا - بالأطروحة العقلانية على مرّ العصور. والتنوير الأوروبي - الذي نقصده عندما نطلق لفظ "التنوير" - يرتبط بعصر العقل: القرن الثامن عشر الميلادي. وخلال تاريخ البشرية الطويل، كان التفكير العقلاني حالة استثناء، إذ الأصل أن البشرية تسير وفق غرائزها البدائية المباشرة، وما ينتج عنها من عادات وتقاليد بدائية، تتّبِعُها؛ فتكفيها عناء التفكير المرهق، بل والمزعج!. التفكير العقلاني يستلزم جهدا إضافيا/نوعيا لتجاوز التفكير الغرائزي/المشاعري المباشر المرتبط بالوقائع المعينة/المباشرة، وهذا يعني أن التفكير المتعقلن من حيث ندرته، يمثل خروجا مشاكسا للمُواضَعات الاجتماعية التي "تتعبّدها" الجماهير الغوغائية بفعل الألفة والاعتياد والإيحاء العام بالتقديس أو بما يشبه التقديس. ليس هذا في المجتمعات البدائية الخالصة، أو تلك التي لا تزال ترزح تحت وطأة التخلف فحسب، بل حتى الجماهير العريضة في المجتمعات التي طالها شيء من التقدم، يصعب عليها تقبّل أي اختراق للنظام التقاليدي السائد. يقول غوستاف لوبون عن هذه (الجماهير) التي تحارب حركات الإبداع بطبعها البدائي المحافظ: "وكجميع الناس البدائيين فإنها تشعر باحترام وثني تجاه التقاليد وبهلع لاواعٍ تجاه البدع المستجدة القادرة على تعديل الظروف الحقيقية لوجودها". ولوبون نفسه يؤكد أن المؤسسات التعليمية التي ينخرط بها هؤلاء العوام لا تتجاوز بهم الوعي البدائي المعادي للتنوير العقلاني. يقول: "المؤسسات هي بنت الأفكار والأخلاق والطبائع". أي أن الجماهير التي تتعلم في المؤسسات السائدة، وتعتقد أنها تكتسب قيم الإبداع التنويري من خلال هذه المؤسسات، إنما تخادع نفسها بذلك؛ لأن هذه المؤسسات تكونت بفعل السائد الجماهيري، فلا عجب أن تعيد إنتاج هذا السائد اللاعقلاني في صورة عقلانية. وبما أن السائد الجماهيري ليس فيه ما يُعزّز القيمة الإبداعية، فالذي يروج ليس خطاب العقل المتضمن لقيم الإبداع، وإنما قيم المحافظة والجمود التي تأخذ على عاتقها محاربة الإبداع واغتيال كل صور التحرر المعرفي. ولهذا لا تنتصر الأفكار التقدمية إلا بعد معاناة طويلة؛ لأنها تتسرب إلى الوعي الجماهيري ببطء شديد. وهذا ما يؤكده لوبون بقوله: "نجد من وجهة النظر الفكرية أن الجماهير متأخرة عن العلماء والفلاسفة عدة أجيال". (سيكولوجية الجماهير، على التوالي: ص78، ص104، ص85). إن قيم التنوير العقلي قيم متأنسنة، تقف على الضد من الطبائع الغرائزية المتوحشة للبشر، إنها تهذيب للطبيعة البشرية البدائية الراسخة في أعماق هذا الإنسان. التنوير يحاول شدّ الإنسان إلى النتائج اللامنظورة/اللامباشرة لأفعاله وسلوكياته، بينما الإنسان بطبعه الفطري يتأثر بالآني والمنظور، ويرتكب حماقات في هذا المجال، لا يدركها إلا بعد فوات الأوان. التنوير يحكم غرائز العدوان بالتأسيس لحقوق الإنسان، بما فيها من عدالة مساواة وحريات يحفظها القانون، بينما الإنسان ذئب لأخيه الإنسان – كما يقول هوبز -، والظلم من شيم النفوس - كما يقول أبو الطيب المتنبي -. التنوير يؤسس أفكارا تصنع مؤسسات تحكم/تضبط نوازع الطغيان، بينما الإنسان يطغى؛ إن اعتقد في نفسه القوة، ولم يجد من يحاسبه على استخدامها..إلخ من الغرائز التي تحتاج إلى منظومة عقل متكاملة – متجددة مع تحولات الظرف الإنساني والواقعي – لتكبح جماحها، بل ولتكيّفها وتوظف طاقاتها؛ لتكون خيرا للجميع. الفرق بين المجتمع المتقدم والمجتمع المتخلف ليس وجود مفكرين تنويريين هنا، وانعدام وجودهم هناك. الفرق يكمن في مستوى الاستجابة الجماهيرية، أي: هل تستطيع أن تحقق مستوى من التغيرات النوعية في الوعي الجماهيري يتغير معه الواقع أم لا؟ معضلة الفاعل التنويري/العقلاني، أنه لا يستطيع أن يحدث نوعا من التحول النوعي في الواقع دون أن يكون مؤثرا في وعي هذه الجماهير. وفي الوقت نفسه، هذه الجماهير لا تتأثر إلا بمن يخاطب فيها غرائزها البدائية المجافية للتحولات النوعية. ينقل سيغموند فرويد عن ماك دوغال قوله: "كلما كانت الانفعالات أقرب إلى الفجاجة والبدائية، كان حظها في الانتشار على هذا النحو بين الجمهور أكبر"(علم نفس الجماهير، ص45). وهذا يعني أن الغلبة في معظم الأحيان إنما هي لهذه البدائية الفجة التي تتعارض مع مبادئ العقلانية، المتطورة – تدرّجا – عبر التاريخ، (التاريخ المتضمن لتاريخ الفكر وفكر التاريخ). منذ القدم أدرك كثير من المفكرين اللامعين هذه الحقيقة، بل وأدركوا خطورة تجاهلها. يقول الجاحظ في إحدى رسائله عن الجماهير/العامة: "قاربوا هذه السفلة وباعدوها، وكونوا معها وفارقوها، واعلموا أن الغلبة لمن كانت معه، وإن المتهور من كانت عليه"!. وبصرف النظر عن اللغة العنصرية في هذا الكلام الصادر عن معتزلي كان يعاني من ويلات الاحتشاد الجماهيري الغوغائي الذي كانت الحشوية تتسيده في القرن الهجري الثالث، فهو يحكي حقيقة واقعية، وهي أن متغيرات الواقع تتحدد بقوة الزخم الجماهيري حتى ولو كان غوغائيا. إذن، إن أردت التأثير في الواقع فلا بد لك من التحكم في وعي هذه الجماهير. وأنت لا تستطيع ممارسة هذا التحكم إلا بالتخلي عن قيم العقل، ومغازلة غرائز هذه الجماهير بالخرافي والغرائزي البدائي. إن الانقياد الجماهيري للخطاب الغرائزي يستحكم؛ كلما كان الخطاب أكثر غوغائية وأقرب للخرافة والدجل. يقول لوبون في هذا السياق: "فمن يعرف إيهامهم يصبح سيدا لهم، ومن يحاول قشع الأوهام عن أعينهم يصبح ضحية لهم" ويقول أيضا: "فالجماهير لم تكن في حياتها أبدا ظمآى للحقيقة" (سيكولوجية الجماهير، ص122). ولهذا لا غرابة أن تجد الوعاظ الجماهيريين الخرافيين في المجتمعات المتخلفة وشبه المتخلفة يلاقون نجاحا منقطع النظير، بينما يفشل أولئك الذين يتوسلون في خطابهم بمنطق/مبادئ العقل، بل ويصبحون - في نظر هذه الغوغائية الجماهيرية - أعداء متآمرين. إن لدى الجماهير – كما يؤكد فرويد – غريزة قطيعية. والغريزة القطيعية ترتبط – وجودا وعدما - بالانقياد التام للقائد، القائد الذي قد يكون واعظا أو عسكريا..إلخ، المهم أنها تنقاد لشخص ما، انقيادا تاما، ولولا هذا الانقياد، لم يتشكل القطيع أصلا. يؤكد فرويد ذلك بقوله: نميل إلى الاعتقاد أنه يستحيل فهم طبيعة الجمهور إذا صُرف النظر عن القائد (علم نفس الجماهير، ص102). ولا شك أن قيمة القائد للقاعدة الجماهيرية (القطيعية) تتحدد في تصورها التوهمي أنه يمتلك مواهب أكبر من مواهبها، وبالتالي، فهو – في تصورها - قادر على التفكير نيابة عنها. وهي إذ تعتقد أنه يستطيع التفكير عنها، لا تفعل ذلك لأنها امتلكت من الوعي ما يسمح لها بفحص مستوى قدرات هذا القائد، ومن ثم منحه شهادة جدارة، بل فقط، لأنه عرف كيف يضرب على أوتار مشاعرها البدائية/الغرائزية؛ فتصورت أنه يقول (الحق) لمجرد أنه ينطق بما يختلج في أعماقها من أوهام تتصورها الحق المطلق. لا تستطيع الجماهير التفكير فيما هو أعمق من الانطباعات البدائية الأولى. لهذا تبقى أسيرة لها، ولا تتجاوزها إلا قليلا ونادرا. ومن هنا، لا تظن أن ثمة حقيقة إلا ما تعرفها سلفا. فإذا ما جاءها من يناقض هذه الانطباعات توهمته عدوا للحق، ومن ثم عدوا لها؛ لأنها – كما تتوهم – صاحبة الحق. أما إذا جاءها من يؤكد لها صدق انطباعاتها، ويستحضر "الأدلة!" التي تشهد لها بصواب مواقفها؛ فهي تتماهى معه بوصفها الناطق بلسان الحقيقة. ولهذا تحب، بل وتعشق حد الجنون كل الوعاظ والخطباء السياسيين الذين ينفخون في أمجادها الوهمية، بينما تكره حد الغضب المجنون كل العلماء الحقيقيين الذين يعكسون لها حقيقة ذاتها بلا زيف/بلا تجميل. يذكر الباحث القدير خليل أحمد خليل في كتابه: (عَقلُ العلم وعَقلُ الوهم، ص53) أن "العلماء" في العالم العربي يشكلون ما نسبته 0.1%، أي واحد بالألف من السكان، بينما يشكل رجال الدين 5%. وفي تقديري أن هذا طبيعي بالنظر إلى الظرف التاريخي للعرب. فمن المعروف أن خطاب الواعظ الديني خطاب عاطفي بالكامل، وإن تمظهر ب"تعقلن ما"؛ ما يعني أنه قادر على تحقيق الاستجابة التي تنتظرها الجماهير منه في السياق الراهن للمجتمعات العربية التي لا تزال تعيش عصور ما قبل التنوير: أواخر العصور الوسطى ومقدمات النهضة بكل تأزماته الوجدانية والفكرية، ولا يعيش مرحلة الفجر التنويري كما يتصور المتفائلون. العقل الجماهيري السائد عربيا لا يزال ينتمي إلى عصور الانحطاط، لا يزال عقلا قروسطيا في صورته العامة. ومن هنا، فالخطاب البرهاني لا يستطيع التغلغل إلى عقول الجماهير عامة، والجماهير في العالم المتخلف خاصة. إنك إن خيّرت الجماهير بين خطاب العاطفة المتخم بالأوهام والأحلام الكاذبة، وبين خطاب العقل الصادم بالحقائق المؤلمة؛ فستختار الجماهير – كما لا تزال تفعل حقيقة - خطابَ الأوهام. يقول غوستاف لوبون عن علاقة الأفكار بالعواطف الجماهيرية: "إن عجز العقل عن التأثير في الجموع هو أهم صفاتها، فالأفكار التي تؤثر فيها هي المشاعر التي صُبّت في قالب الأفكار لا الأفكار العقلية" (الآراء والمعتقدات، ص143). والمراد هنا أن الجماهير – بطبعها – عاطفية، لا تتأثر بالخطاب البرهاني. وحتى ما يظهر لنا كخطاب برهاني في الخطابات الجماهيرية (الدينية خاصة) هو – في حقيقته - خطاب عاطفي تم "تزيينه" بالمُحَاجَجَات البرهانية، وإلا فالأصل عاطفي محض. والدليل على هذا، أن الجماهير وهي تسمع ذلك الحِجَاج السجالي لا تتأثر إلا ب(براهين) دعاتها، أي تلك التي تؤكد لها ما تؤمن به سلفا، بينما (براهين) الآخرين تبدو في نظرها مجرد مغالطات وشبهات، بل وضلالات؛ حتى لو كانت أقوى وأوضح وأوثق من (براهين) دعاتها الذين يُداعبون فيها عواطفها القومية أو الوطنية أو الدينية أو المذهبية، أو حتى تعصبها لفريقها الكروي!. [email protected]