معظم التاريخ العربي والإسلامي تم تدوينه في الحواضر العربية العراق، والشام، فازدحمت تلك الكتب بأخبار الحواضر وأهملت الأطراف. فالمدونات التاريخية الكبرى للطبري وابن الأثير وابن كثير، رصدت التاريخ منذ بدء الخليقة متتبعة تاريخ الأنبياء وصولا إلى العصر الذي عاش فيه مؤلفوها من أخبار الحواضر العربية آنذاك. ومن هناك تحول التاريخ إلى كتلة مصمتة يعجز اختراقها أو مراجعتها، وظلت الأطراف منفية شريدة مهملة رغم عمق التاريخ والإرث الحضاري الذي مر بها، كما ظلت مجرد كويكبات صغيرة تدور في أفلاك الحواضر بعيدة منزوية في هوامش كتب التاريخ، فيما احتفظ مؤرخو الحواضر العربية بمفاتيح كتب التاريخ، تعيده وتستزيد منه، وباتت كتب التاريخ، مجرد تنويعات على مدونة أحادية الطابع والروح والخصائص. غياب بعض المناطق العربية عن المدونة التاريخية سلبها حقها وطمس معالمها، والقى بظلال مبهمة غامضة، لذا هذا الأمر قد يفسر ما نسمعه من بعض الجهلة المتعالمين حول غياب المكون الحضاري عن جزيرة العرب. إلى أن أشرفنا في العصر الحديث على المدارس التاريخية الحديثة التي تعتمد على البحث والتنقيب ومساءلة المسلّمات وتفكيك المدونة التقليدية عبر توسل الأساليب العلمية في الوصول إلى الحقائق التاريخية، لنكتشف عندها عمق الحضارات التي عاشت في جزيرة العرب سواء كمدن تجارية في رحلة الشتاء والصيف ودرب الحرير، أو كمراكز حضارية ذات استقرار مدني وصناعة وعمران. وهو العصر الحديث نفسه الذي بدأ المكون الحضاري فيه يتزحزح من الحواضر ويتجه إلى الأطراف، وانقلب اتجاه بوصلة القبائل السامية خارج جزيرة العرب، لتتحول الآن في العصر الراهن جزيرة العرب إلى أكبر منطقة جذب في العالم العربي. بالطبع الحواضر العربية لن تتنازل عن امتيازاتها التاريخية بسهولة، فأخذ يظهر بسبب هذا خطاب شوفيني متعصب من عرب الشمال ضد جزيرة العرب وسكانها، ويتخذ طابعا عنصريا فوقيا لكنه في نفس الوقت جاهل، وليس علمياً، لأنه يحتكم إلى مدونة عمرها ألف عام. في المقابل عجزت الحواضر العربية القديمة أن تحلق بأجنحة النهضة العربية في العصر الحديث التي بدأت منذ مايقارب القرنين لأسباب يصعب حصرها! ولو طبقنا الدورة الحضارية التي يشير لها (مالك بن نبي) للحضارات: أولا- النهضة أو الميلاد الطور الصاعد (الروح). ثانيا- الأوج وهي تسير بخط متواز (العقل). ثالثا-الأفول وهي طور هابط (الغريزة). لوجدنا أن الحواضر العربية في العراق وسورية ومصر قد دخلت منذ عقود في الطور الهابط، الذي تعجز عن الانعتاق منه، بينما الجزيرة العربية ولمعطيات اقتصادية تنمو في طور صاعد وأيضا واعد بأن يمتد المكون الحضاري لجميع شؤون حياتها. ومقولة مصر تكتب ولبنان تطبع والعراق تقرأ أصبحت أحفورة دخلت المتحف، وجد جديد غيّر ملامح المشهد، وبؤر صناعة النشاط الحضاري. وبعيدا عن هذا كله فالتباهي بالتاريخ والارتهان إلى الحالة الماضوية السكونية هو فعل تخلف بحد ذاته ما لم يكن لذلك الإرث امتداد له على أرض الحاضر يتجلى في قيم عصرية إنسانية تخدم أصحابها والمجتمع الإنساني العالمي والعصر الذي يعيشونه. فأميركا إمبراطورية العالم التي تبز العالم في ميادين العلوم والاكتشافات والاختراعات، لايتجاوز عمرها 500 عام. الأمم في العصر الراهن تتباهى بمنجزها الحضاري ودورها في الإضافات التي حققتها للمسيرة البشرية، وأما من يعجز أن ينقل تاريخه لحاضره فهو خارج مركبة التاريخ. ولعل هذا يفسر لنا مدى هشاشة وضحالة من باتوا يقدمون أنفسهم كمثقفين ومفكرين، بينما طروحاتهم نفسها هي جزء من تخلف حضاري عميق في مدن كانت في السابق.. من الحواضر الإسلامية.