تطرح قضية غلبة الشعر على السرد، في الثقافة العربية قديمها وحديثها، خدعة وصفية كبيرة ينبغي تبديدها بجرأة، وتفكيك مسلّماتها، ونقض الأوهام المتصلة بها؛ ذلك أن الشعر منذ العصر الجاهلي إلى يومنا هذا لم يشكّل إلا نشاطاً جزئياً في تلك الثقافة، فقد كان السرد ومازال هو الأكثر حضوراً فيها، لكن كل ذلك يحتاج إلى تحقيق يكشف تلك المنطقة التي أشاح كثيرون بوجوههم عنها جهلاً أو نكراناً، فالمرويات السردية الجاهلية، ثم المرويات التي ظهرت في العصور الإسلامية المتعاقبة، تؤلّف مدوّنة كبيرة لا سبيل إلى حصرها، وقد تجسّدت بأنواع أساسية وثانوية كثيرة، منها: المقامات، والحكايات الخرافية، والسير الشعبية، والسير الموضوعية، والسير الذاتية، والنوادر، والطرف، وقصص الحيوان، ومرويات الإسراء والمعراج، وقصص الأنبياء، والإسرائيليات، وكتب الأخبار والتراجم، ومدوّنات الارتحال في دار الإسلام وخارجها، وكتب المسالك والممالك، وأخبار البخلاء، والمكدّين، واللصوص، والظرّاف، والمتطفلين، والصعاليك، والعميان، والمجانين، والعشاق، والزهاد، والنسّاك، والقصّاص، والمحدّثين، فضلاً عن قصص العجائب والغرائب، وهي قائمة تضم آلاف الكتب الضخمة التي يتعذّر الإلمام بها، ولم يتعرّض معظمها للتحقيق الذي يخرجها من طيات الماضي، ناهيك عن التحليل الذي يكشف طبيعتها وأغراضها وأساليبها وأبنيتها، فبقيت شبه مجهولة في خزائن التراث، مع أنها كانت شائعة، وتتداول لدى النسّاخ في بغداد ودمشق والقاهرة وغرناطة وقرطبة وفاس ومراكش وأصفهان وسمرقند وبخارى، وسائر حواضر دار الإسلام، ولها شأن كبير في كتب الفهارس والمعاجم، وجميعها يندرج ضمن الأنواع السردية التي غفل عنها كثير من القدماء والمحدثين لأنها لم تندرج في إطار الثقافة الرسمية، وقوبلت بنوع من الرفض الديني أو اللغوي لأنها لم تمتثل للمعايير الشائعة في الفكر الديني أو الفصاحة اللغوية السائدة، ومثالها الأشهر "ألف ليلة وليلة" و"مائة ليلة وليلة"، وسير كلّ من: سيف بن ذي يزن، والأميرة ذات الهمّة، وعنترة بن شداد، وأبي زيد الهلالي، والظاهر بيبرس، أما في العصور الحديثة، فقد ازدهر السرد بطريقة لافتة للنظر، فهنالك القصة القصيرة، ثم الرواية التي تكاد تغطّي معظم نتاج الثقافة الأدبية المعاصرة، وهذه التركة الهائلة من المرويات والمؤلّفات السردية هي الحامل الحقيقي لهويّة الأمّة في الماضي والحاضر، والمعبّر الرمزي عن تطلعاتها وانكساراتها، ولا يمكن مقارنة الشعر، لا من ناحية الوظيفة ولا من ناحية الكم، بتلك التركة الضخمة التي صاغت مشاعر الأمة، وعبّرت عن عواطفها وتصوراتها تجاه نفسها، وتجاه الأمم الأخرى. إن مصدر الوهم بأن العرب أمة شعر لا أمة سرد مرجعه الاهتمام الرسمي بالشعر في قصور الخلفاء والولاة والأمراء، فكان الشعراء يتنادون إلى تلك المجالس كسبا للمال، ما خلا شذرات رثائية أو غرامية كتبت تعبيراً عن تجارب شخصية، فقد كان حضور الشعر مرتبطاً بوجود الشعراء في المجالس والأندية والقصور، وما دام السرد كان يروى بعيداً عن ذلك، فقد جرى إهماله لأن رسالته تتجه إلى ناحية لا صلة لها بالثقافة الرسمية في الغالب، إنما بالثقافة الشعبية، فارتسم تصور خاطئ بأنه غير موجود لأنه كان يتداول خارج ذلك المجال. لكن ذلك الخطأ بدأ يتعرّض للتعديل وإعادة النظر، بل وللتصحيح شيئاً فشيئاً، فثمة مراجعة جادة للسرد العربي القديم بأنواعه كافة، وهو سرد شامل لم يقتصر على الموضوعات الأدبية إنما شمل القضايا التاريخية والدينية والاجتماعية، وإلى ذلك فقد انتزعت الرواية المكانة الأولى في العصر الحديث، وهي في صعود مثير للعجب، فيما انحسرت وظيفة الشعر، ويعود ذلك إلى انهيار قيمة القول الشعري؛ لأنه عجز عن تمثيل الأحوال الاجتماعية مما أدى إلى عزوف القرّاء عنه. هذه الحقيقة ينبغي الالتفات إليها، وإبطال المسلّمة القائلة بأننا أمّة شعر فقط، فإذا كان لابد من وصف يندرج في تاريخ الأدب العربي، فالصواب هو القول بأننا أمّة سرد لأن السرد نهض بمهمة تمثيل الأحوال العامة للأمة أكثر مما قام به الشعر.