تعرف الأشياء بتضاداتها، قول فلسفي مأثور. ومعناه أن معرفة الأنا لا تتحقق إلا بمعرفة الآخر. وكان الوعي بهذه المسلمة، هو أساس تحديد تاريخ الأمم، ومن ضمنها أمتنا العربية. فهذا التاريخ هو وعي الخاص، وما هو استثنائي من الحوادث. ولذلك تعرف الهوية بأنها الخصائص التاريخية واللغوية والنفسية التي تؤدي إلى الفصل بشكل حاسم بين جماعة من الناس وأخرى. وتنتج هذه الخصائص عن عاملين رئيسيين:داخلي، يتمثل في تقاليد ومواريث، تراكمت عبر حقب تاريخية ممتدة. وخارجي، يعكس تفاعل الأمة مع وضع عالمي فوار متغير، مفرزا موجات ثقافية متعددة ونماذج حضارية مختلفة، ينتج عنها ردود فعل ذاتية تفرض التعامل بخصوصية مع تلك التقاليد، مانحة إياها هوية جديدة. ذلك يعني ان الهوية ليست شيئا ساكنا، كونها نتاج حركة وتعاقب، ولذلك تتجدد كما تتجدد اللغة والمواريث. وبموجب هذه القوانين، تطور الوعي العربي، عبر حقب تاريخية، طويلة وممتدة. وكان بزوغ الرسالة الإسلامية، وانطلاقها من بطحاء مكة، قد وضع قاعدة الرسم البياني، للحضارة العربية، التي ارتبطت برسالة الإسلام. وكانت جزيرة العرب، هي مهد البداية، في تلك الانطلاقة. منذ الألف قبل الميلاد، شكل العرب كيانات مستقلة خاصة بهم، صمدت طويلا، رغم ما تعرضت له من محاولات الإمبراطوريات المجاورة للهيمنة عليها. وفي ظل تلك الكيانات استقرت العربية لغة وحيدة للقوم، في جزيرة العرب، والتخوم الجنوبية للعراق والشام، بالحيرة وبادية الشام. وساهم بروز الخط العربي في انتشار الأدب من شعر ونثر في عموم البلاد، مما نتج عنه خلق روابط ثقافية واجتماعية عميقة بين القبائل العربية. وحين جاء الإسلام وامتدت رقعة بلاد العرب، أصبح المجتمع العربي أكثر تأثرا بالتيارات الفكرية المحيطة والوافدة، خاصة أن كثيرا ممن اعتنقوا الدين الجديد من عناصر مختلفة الانتماء، حملوا معهم بعضا من معتقداتهم وثقافاتهم وسابق تراثهم. وقد أصبحت تلك التيارات الفكرية عامل تحد وتجديد ساهمت في إثراء الثقافة العربية. بدأ وعي العرب بذاتهم، قبل الإسلام، وعبروا عن ذلك في شعرهم ونثرهم. وكانت لهم علاقات بالحضارات التي قامت من حولهم. وساعدهم ذلك في الاطلاع على الديانات والعقائد التي سادت في عصرهم. وقد استقر في وعيهم أن أنسابهم دليل هويتهم، ومن هنا منحوها عنايتهم المبكرة. بمعنى أن الوعي كان محكوما بالانتماء للعشيرة والقبيلة. وحين جاء الإسلام، غدت العربية قاعدة هويتهم، وكانت الثقافة العربية والتراث الديني محتوى ذلك الانتماء. كان صدر الإسلام فترة شهدت قفزات حضارية كبرى بالنسبة للعرب. وقد نزلت الرسالة الإسلامية، بمكةالمكرمة. وحين هاجر الرسول إلى يثرب انتقل مركز الدعوة للمدينة المنورة، وبها بدأ الاستقرار للحضارة الوليدة. واثر انتهاء مرحلة الخلافة الراشدة انتقل مركز الحكم إلى بلاد الشام، وأصبحت دمشق عاصمة للخلافة. شجع انتقال مركز الخلافة إلى الشام، والفتوحات العربية، على الهجرة إلى الأمصار المجاورة، ما أدى إلى انتشار العرب في مناطق الفتوح الإسلامية. وكان من نتيجة ذلك إنشاء عدد كبير من المراكز والمدن الجديدة في دار الإسلام. ومع انتقال العرب إلى حال العمران بدأ النضج الثقافي والحضاري للأمة يأخذان مكانهما، حيث تم وضع أصول الدراسات العربية والإسلامية، ترسخت قواعد التعريب الإداري والثقافي في عهد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان، ومن بعده ابنه الوليد بن عبدالملك. وأثناء العصر الذهبي للحضارة العربية، خلال حقبة العباسيين، نمت الدراسات العربية الإسلامية، بإضافة علوم الأولين من فلاسفة وحكماء عن طريق الترجمة، وأخذ العلماء ينفتحون على الفكر الإنساني العالمي وينهلون من معينه، فجرى التعرف على فكر الإغريق وفلاسفتهم، واستوعب منهج أرسطو في التحليل وفلسفة سقراط وأفلاطون ونظريات ارخميدس.. وأخذ العرب يبدعون في علوم الفلسفة والكيمياء والحساب والجبر والطب وعلم الفلك، ويقارعون بالحجة خصوم الإسلام وأعداءه. وقد شارك في تلك النهضة العرب والمستعربون على قدم المساواة. وكان نزول القرآن الكريم باللسان العربي المبين، وحمل العرب راية الإسلام في بزوغ فجره، واقتران أمجاده وانتصاراته بهم، ووضع أصول الشريعة والفقه بثقافتهم ولغتهم، وكون جل علمائه ومفكريه في صبح تأسيسه منهم، أعطى العرب دورا مركزيا ومميزا في مسيرة الإسلام عبر العصور. وفي ظل الفتح العربي الاسلامي، تطورت فكرة الأمة، من أقوام تتحدد هويتهم على أساس انتماء عرقي، إلى شعب ينتمي إلى لغة وحضارة وأرض وثقافة مشتركة. بات متوقعا أن يترجم ذلك في فكر الأدباء والمؤرخين وغيرهم. وهذا ما يلاحظ، منذ القرن الثالث الهجري لدى الجاحظ وابن قتيبة وأخيرا عند ابن خلدون، فهم يرون أن اللغة العربية وليس العرق أساس الانتساب للعرب. وقد أشاروا إلى العلاقات المشتركة للجماعة كعامل من مكونات الأمة، وإلى القيم والسجايا العربية كعوامل أخرى، وهي صفات ذات صلة مباشرة بالثقافة. وتؤكد قراءة التاريخ العربي الإسلامي، أنه حين انطلقت جيوش المسلمين من مدينة يثرب إلى عموم مناطق الجزيرة العربية تدعو إلى عقيدة التوحيد، كانت على علم بتضاريسها: وديانها وجبالها، ومعرفة بطرقها، حيث كان المسلمون من أهل مكة قد استخدموا تلك المناطق وطرقها محطات وممرات لعبور قوافل تجارتهم من قبل. بل كانوا على معرفة بقبائل الجزيرة وعشائرها وأنسابها ورموزها الاجتماعية. لقد ساعدتهم تلك المعرفة في عقد التحالفات وتوقيع معاهدات الصلح، وإقامة العلائق مع كثير من القبائل، ما سهل على الفاتحين تنفيذ مهامهم. وإلا كيف نفسر تمكن المسلمين بقيادة خالد بن الوليد في فترة لم تتجاوز العامين من عهد الخليفة أبي بكر الصديق، من توحيد عموم مناطق الجزيرة العربية. وهي فترة قياسية قصيرة شهدت كرا وفرا ووقفات تعبوية، وانتقالا عبر الصحراء، في مواسم قاسية من منطقة إلى أخرى، من نجد إلى اليمن وعمان فالبحرين وشمال الجزيرة.. إلى بلاد الشام والعراق. ومن المؤكد أن تحقيق تلك الغزوات والحروب، وتكللها بالانتصارات في تلك الظروف، كان عملا أقرب إلى المستحيل لو كانت هناك قطيعة في الثقافة والمكان. لقد أكدت تجربة الفتوح الفريدة التي امتدت من السند شرقا إلى أسبانيا غربا، عمق التواصل القومي بين العرب رغم تباعد المسافات. فقد صاحب تلك الفتوح انتشار كبير للإسلام والعربية في سرعة غير مشهودة، حيث اعتنقت أمم كثيرة الإسلام، وقبلت أخرى بالعروبة هوية وبالإسلام دينا ومحتوى ثقافيا. ويوضح ذلك التواصل، أسباب التماهي السريع والواسع مع عقيدة التوحيد، واستجابة الشعوب التي دخلت الإسلام حديثا للتفاعلات الفكرية والمذهبية والفقهية، وقبول العرب على اختلاف مناطق تواجدهم نتاج مدارس الكوفة والبصرة وبغداد والقيروان، وانتشار المذاهب الفقهية التي نشأت جميعا في العصر العباسي، وتمركزت في بغداد والحجاز في أرجاء المدن العربية، لتنتقل فيما بعد إلى أرجاء الدولة العربية الإسلامية حتى الأندلس. وبالمثل انتشرت بسرعة، وبشكل أفقي عريض المذاهب الفكرية والفلسفية التي تكونت في ظل الحضارة العربية. وكانت تلك المذاهب في تعبيراتها، انعكاسا موضوعيا للصراعات السياسية والاجتماعية التي شهدتها دولة الخلافة في العصرين الأموي والعباسي، كمدارس المرجئة والأشاعرة والجبرية والقدرية. وقد وجدت من يتبناها ويدافع عنها على امتداد الساحة العربية والإسلامية. في مرحلة لاحقة، صدر كتاب «تهافت الفلاسفة» لأبي حامد الغزالي في بلاد فارس، إلى الشرق. ورد عليه أبو الوليد محمد بن رشد المولود بقرطبة في الأندلس، أقصى ما وصلته حضارة العرب والمسلمين غربا. وكان أن صدر فيما بعد كتاب المقدمة لعبدالرحمن بن خلدون، من تونس بالمغرب العربي.. وتلك كانت قفزة نوعية في تأسيس علم الإجتماع. وعلى الصعيد الأدبي، كان هناك تواصل عبر عنه الشعر العربي، في حلقات مستمرة، متصلة، منذ شعر المعلقات قبل الإسلام، إلى عمر بن أبي ربيعة فجرير والفرزدق ودعبل الخزاعي وأبي نواس والبحتري وأبي تمام إلى الأندلس حيث ابن زيدون وابن هاني والموشحات الأندلسية.. وقد نقلنا ذلك الأدب الرفيع في رحلات بإيقاعات جميلة ونبض مثل التاريخ في حركته وتطوره من الحجاز إلى الشام والعراق ومصر والأندلس. وعندما ضعفت دولة الخلافة، برزت أكثر من خلافة في دار الإسلام، منذ القرن الرابع الهجري، ما أدى إلى القضاء على الوحدة السياسية للدولة العربية الإسلامية، وتزعزع فكرة الخلافة الواحدة أمام تعدد الكيانات. ومع أن دولة الخلافة قد تفككت، وحلت محلها إمارات وممالك حمدانية وسلجوقية ومملوكية، فإن فكرة أمة واحدة تربطها عقيدة بقيت حلما يراود الكثير من العرب.. واستمرت الهوية تحمل ثنائية ممزقة بين انتماء إلى كيان خاص، وانتماء معنوي آخر إلى أمة تضم شعوبا وقبائل. ومع كل حالة ضعف يطغى الشعور بالانتماء إلى الأمة. لكن وحدة الأمة سياسيا بقيت بعيدة المنال، فقد كانت رهنا بقوة العرب وتصميمهم، ولم يكن لدى العرب في واقع حالهم قوة أو تصميم على تحقيق ذلك.. والملاحظ أن الثقافة العربية، برزت بشكل مثير للإعجاب، مع تداعي نظام الخلافة. وهي حالة مناقضة للمألوف في الحضارات الإنسانية، حيث يتحقق تواز في الصعود والتداعي بين خطي النهضة والسلطة. في البلدان العربية، لا نلاحظ توازيا رأسيا بين خطي السلطة والنهضة، إذ في الوقت الذي تمزقت الخلافة، وأخذ الخط البياني السياسي بالميل إلى الأسفل، ظل خط النهضة الفكرية البياني مستمرا في اتجاهه بالصعود، مبرزا أسماء لامعة، كابن سيناء والرازي والفارابي وابن ماجة وابن الهيثم والإدريسي وابن خلدون والغزالي وابن رشد. وهذا يعني أن انهيار دولة الخلافة، لم يعبر عنه بانقطاع ثقافي. وأن الثقافة العربية نمت بفعل مجموعة من التفاعلات الموضوعية، التي منحتها القدرة على الاستمرارية حتى في ظل الضعف السياسي. والتفسير المنطقي هو أن تلك الثقافة لم تكن رديفة للسياسة، بل تعبير عن وجدان أمة ارتبطت بشحنات عاطفية وتراثية ساهم في إذكائها الموروث الثقافي والفكري والديني والأدبي والفني للأمة العربية.. لقد استمد المجتمع العربي، من تلك الشحنات سياجا واقيا لحماية هويته من التفتت، رغم حالة الضعف السياسي الذي منيت به الأمة. وحين انبثق عصر الأنوار الأوروبي تلقفت المدارس والجامعات الأوروبية ذلك الإرث وبنت عليه.. وهكذا هي مسيرة الإنسانية دائما. يتداخل فيها الجديد بالقديم. النهضة الإسلامية استمرت بالصعود رغم تمزق الخلافة