نعم، للقراءة أشواقها وجمالياتها التي تأخذ بك في أودية لم تخطر على بالك من قبل. في الغالب، تجمع القراءة النوعية بين الفائدة والمتعة، وفي النهاية، ما أفاد؛ أمتع، وما أمتع؛ أفاد. وترتفع درجة هذا وذاك؛ عندما تتحول القراءة إلى هواية؛ فيصبح "الشاق" و"العسير"، فضلا عن "العقبات المعرفية" و"المُنغّصات الظرفية المصاحبة"، من شروط الإمتاع القرائي. الكتاب الرديء يأخذ – بالضرورة – مكان الكتاب الجيد: وَقْتا ومالاً وفَهْماً، فمقابل كل كتاب رديء تحَقّق في واقعك، كان ثمة كتاب جيّد مُحتمل؛ فاتك بسبب سوء حظك، حظك الذي صنعته إرادتك الحرة في الاختيار!. وبكل حال، فإن هذا التحوّل حيويّ في مسيرة الإنسان القارئ، ولكنه لا يتوفر إلا بعد رحلة طويلة مع القراءة، بحيث تصبح العادة القرائية طبعا متحكما في احتياجات الجسد والروح والعقل. لكن، كما أن للقراءة كل هذا الجمال الطبيعي، وكل هذا الجمال المتكلف الذي تحوّل إلى طبيعي، فإن لها – في الوقت نفسه – مُنغّصاتها ومُنكّداتها السامّة التي تكاد تعصف بكل هذا الجمال. لو كَمُل شيءٌ في هذا الوجود النسبي؛ لكانت القراءة في صفوة العقول البشرية كمال كماله، ولكن، ولسوء حظنا ككائنات نسبية/عارضة/منقرضة، لا شيء في عالمنا المحدود يُولد من رحم الكمال. أنا هنا لن أتحدث عن مُنغّصات ومُنكّدات القراءة من ناحية جناية القراءة على الجسد، الجسد الذي يبقى خاملا بحكم النشاط القرائي الجاد (وهو ما اشتكى منه ألبرتو مانغويل)، في الوقت الذي تُوفّر فيه هذه القراءة رياضة استثنائية للروح والعقل، كما لن أتحدث عن لحظات السأم التي كانت تعقب القراءات المتواصلة إذا ما استمرت على مدار الليل والنهار، وخاصة في أوقات الإجازات الطويلة التي لا تفرض عليك كقارئ حُرٍّ أي نوع من الانقطاع الإجباري؛ فتعيش مع الكلمات المراقصة أمامك وَهْم حياة افتراضية بدل الحياة الصاخبة من حولك، وحينئذ ينبعث في وعيك سؤال خانق بعد كل هذا الجهد المضني المتواصل فيما يشبه الغيبوبة، سؤال يحاول أن يقلب كل هذا التعب الممتع، هذا التعب المشدود إلى آفاق اللامرئي، واللاّموجود أحيانا، إلى عبث هذياني في سياق الوجود المشهود. أقصد عندما تُفيق في لحظة صفاء - أو لحظة غباء – بعد كل تلك الساعات الطوال التي تلتهم عشرات الأيام والليالي، والتي تقدمها قُربانا من أجمل سنوات عمرك لتستمتع بأرقى ما أنتجه العقل البشري؛ فتسأل وأنت على حافة اليأس: ثم ماذا؟. هذا السؤال الذي يتسلل إليك كثعبان سامٍّ في غابة القراءة التي لا تخلو بعض منخفضاتها من مستنقعات الملل في بعض الأحيان. تحديدا، حديثي هنا سيكون منصبا على نكبة القراءة في (الكتاب الرديء) التي يصاب بها كل مهموم بالقراءة لا محالة؛ فمنهم من يُدركها؛ فيحاول التخّففَ من ويلاتها بوسائل شتى، ومنهم من تستوعبه تماما، فيصبح - بعد فترة طويلة نسبيا - قارئا رديئا بامتياز، ومن ثَمَّ لا يستطيع الإحساس برداءة المقروء الذي يسمم عقله وروحه، بل قد يتحول إلى صاحب طبع رديء في القراءة، بحيث ينتقل من رديء إلى أردأ؛ حتى يتعذر عليه التعامل مع الكتابات الجادة التي تمتلك خاصية الارتقاء بالإنسان. لا تتوقف سلبية الكتاب الرديء على كونه لا يمدّك بأي فائدة؛ فتكون ضحية (نصب ثقافي)، بل هو – إضافة إلى ذلك - يأخذك في الاتجاه السلبي المقابل. الكتاب الرديء يستنزف وقتك الذي هو أغلى ما يملكه القارئ، بل الكتاب لا يستنزف الوقت الذي تخصصه لقراءته فحسب، وإنما يستنزف الوقت التالي أيضا، بما يثيره من مشاعر الإحباط والسأم والتفاهة التي تجعلك تكره القراءة لساعات تالية. الكتاب الرديء يستنزف جهدك/طاقتك الإيجابية في العموم، الكتاب الرديء يستنزف مالك، وتعظم المصيبة عندما تكون من ذوي الدخل المحدود؛ وحينئذٍ يستولي الرديء على حظ الجيّد، الكتاب الرديء يُربك عليك سُلّم الأولويات القرائية/المعرفية؛ فيُضيّعك في بُنَيّات الطريق، الكتاب الرديء يشحنك بالأفكار والتصورات السلبية التي تجعلك في النهاية صورة منها، الكتاب الرديء يطبعك بطابع الرداءة العقلية، فتنخفض لديك درجة الذكاء بحكم الاعتياد على التافه الذي يُنتجه الأغبياء والجهلة، ويُسوّقه الأغبياء والجهلة أيضا. وفي النهاية، الكتاب الرديء يأخذ – بالضرورة – مكان الكتاب الجيد: وَقْتا ومالاً وفَهْماً، فمقابل كل كتاب رديء تحَقّق في واقعك، كان ثمة كتاب جيّد مُحتمل؛ فاتك بسبب سوء حظك، حظك الذي صنعته إرادتك الحرة في الاختيار!. كثيرا ما ذكرت تجاربي مع الكتاب الجيد، وذكرت – مستعيدا بالكتابة – ذكرياتي مع الكتاب الرائع. لكن، لم أذكر تجاربي مع الكُتب الرديئة التي عذّبتني في وقت قراءتها وبعد ذلك؛ إذ أورثتني الحسرات تلو الحسرات. طالما عانيت، وخاصة في بداياتي القرائية، من جناية الكتاب الرديء. فأنا، لسوء حظي، نشأت في بيئة تقليدية تفتقر إلى الحواضن الثقافية النوعية. وعندما بدأت في القراءة الحرة وأنا على مشارف السادسة عشرة لم يكن لدي وعي بما يجب أن أختاره، فاندفعت في قراءة كل ما تقع عيني عليه - من كتب الأدب والتاريخ خاصة - في المكتبة العامة والمكتبة الخيرية في قريتي الصغيرة، وفي المكتبات التجارية الفقيرة في منطقتي: القصيم. وزاد الأمر سوءا أنه لم يكن في محيطي من يمتلك معرفة جادة؛ إلا إن كان الانكباب على المنقول التراثي بقراءة عشوائية يُعد ثقافة وعلما. وبهذا لم يكن ثمة مجال للاسترشاد بالتجارب من حولي. والحمد لله أنني لم أسترشد بأحد من محيطي التقليدي، لأنني لو فعلت؛ لكان نصيبي من الكتاب الرديء أكثر مما حصل فعلا، وربما أخذتني تلك إلى ما هو أسوأ، حيث الانحباس في تراث التقليدية المؤسس لرؤى الانغلاق. ربما كانت السنوات الخمس أو الست الأولى من بداياتي مع القراءة هي فترة الجبهات المفتوحة، أي الفترة التي عاث فيها الكتاب الرديء في اختياراتي القرائية دونما رادع حقيقي. مثلا، كنت أقرأ كل ما وجدته في الأدب والتاريخ والتراجم بدون تمييز، وكأنني في رحلة سياحية عشوائية. لا يعني هذا أنني لم أدرك الفروق بين كتاب وكتاب، فحتى في البدايات، كنت أشعر برداءة الكتاب الرديء؛ مقارنة بالكتاب الآخر الجيّد، اللذين قد أقرأهما في وقت واحد، لكن، تبقى مشكلتي في أنني لم أكن أستطيع اكتشاف رداءة الرديء إلا بعد قراءة معظمه أو كله. وهذا يعني أنني لا أدرك خطر ما ألتهمه إلا بعد فوات الأوان، وبعد أن "تقع الفأس في الرأس"؛ كما يقال. احتجت لسنوات من القراءة؛ كي أستطيع تمييز جودة الكتاب بمجرد تصفحه في دقائق معدودة. قد يكون لاعتمادي على الاستعارة في بداياتي دور في ذلك؛ لأن مجانية القراءة كانت تفتح لي الباب على مصراعيه لأقرأ كل ما أريد؛ دونما عائق حقيقي. وهذا ما أدركته لاحقا؛ عندما كنت أقف مستعرضا عناوين الكتب في المكتبات التجارية، أو في معارض الكتب، فكثير من تلك الكتب التي تمر عناوينها على بصري، لم أكن لأتردد في حملها وقراءتها لو كانت بالمجان. لكن، ولأن كل كتاب بثمن، كان عائق الثمن/المال يُرشّد اختياراتي؛ ويجعلني أدقق – مُرغما - فيما أختار. في لحظات التأمل الحُر، كثيرا ما أفكّر في الكتب التي قرأتها؛ ولم تكن جديرة بالقراءة. يؤلمني الوقت المهدور فيها بأثر رجعي، على الرغم من أن الكتاب الرديء لم يكن يستغرق أكثر من ثلاث أو أربع ساعات قراءة (فأنت فيها تطوي بصرك – ومن ثم وعيك - على فراغ أو شبه فراغ)، ولكن مع كثرتها فهي تستهلك زهرة الأوقات. كثيرة هي الكتب التي استنزفتني؛ فكرهتها، واحتقرت أصحابها، بل وحنقت عليهم كما تحنق على أي محتال. في لحظات التأمل تلك، أحاول إحصاء عددها على نحو تقريبي (فالحد الفاصل بين الكتاب الجيد والكتاب الرديء ليس واضحا تماما، فثمة مناطق محايدة، ومستوى الرداءة، كما مستوى الجودة، يختلف)، فأجدها تتجاوز 2000، وقد تصل 3000 كتاب، وحينئذ أحترق غيظا وألما، وأقول لنفسي: ماذا لو كان مكان هذه 3000 كتاب تافه 300 كتاب جيد من الكتب الرائعة التي لا تزال تنتظر وقتها في مكتبتي؟ ماذا لو كان الجهد المبذول ضياعا في 3000 مُركّزا في 300، أيّ فوائد كنت سأحوزها، وأيّ تفاهات كنت سأجنّب عقلي عقابيل عَفَنها؟ في عالم الأدب، كما في عالم الفكر، هناك كثير من الغثاء الذي يضر أكثر مما ينفع. أوصيت طلابي لاحقا بقولي لهم: احذروا من الكتاب الرديء حذركم من الطعام المتعفن أو المسموم. الكتاب العشوائي الساذج المضطرب يُورث – بالضرورة - اضطرابا في العقل وسذاجة تُطبّع الغباء، ويزداد الأثر بمقدار زيادة المقروء من هذا النوع. لا أزال أذكر في الأدب كتب: خفاجي، ورجب البيومي، ونجيب العقيقي، ومحمد بن حسين، والسعيد الورقي..إلخ أعلام الكتب الأدبية الغُثائية، وهي كثيرة جدا. وفي المقابل، لا أزال أتذكر - بغير قليل من الحسرة - اختلاط هذه الرداءة بكتب جيدة، حتى وإن اختلفت في مستوى جودتها، فالرديء يزداد رداءة عندما يزاحم الجيد الذي يستحق أن يحظى بالإشادة مقابل الرديء؛ حتى لا يضل الناس إليه الطريق. طبعا، في البداية عندما كنت أقرأ لمُنتجي الغثائية السابقين في عالم الأدب والنقد، كنت أقرأ أيضا لمُؤلفين جديرين بالقراءة حقا، كمحمد غنيمي هلال، ومحمد زكي العشماوي، وإحسان عباس، ومحمد عبدالمطلب (البلاغي الناقد، وليس الشاعر)، وعلي البطل، وصلاح فضل، وجابر عصفور، وغالي شكري، ومحمد فتوح أحمد، وشكري عيّاد، وكمال أبو ديب، وحسن ناظم..إلخ أعلام الكتب الجيّدة في عالم الأدب والنقد. وعلى قاعدة: "وبضدها تتبين الأشياء"؛ كان هؤلاء وأمثالهم يكشفون، بما يطرحونه من كتابات جادة ومتألقة، عما عليه الطرف الآخر من رداءة تصل حد العبث والاستهتار. في عالم الفكر قد يكون الأمر أكثر تعقيدا؛ لتشعب ميادين هذا الحقل الذي يضم كثيرا من التخصصات في العلوم الإنسانية. في هذا العالم، قد تقع على الكتاب الجيد لشهرته الفائقة، ك(قصة الفلسفة) لويل ديورانت، فهو في عالم الكتب الفلسفية كالمتنبي في عالم الشعر، لا يحتاج إلى مرشد. لكن، قد يفوت على المبتدئ كثيرا مما هو أجدر بالقراءة من غيره، وخاصة تلك الكتب ذات الطابع البانورامي، التي تعطي استعراضا شاملا وجادا لموضوعها. فمثلا، هناك كتب قرأتها في وقت متأخر نسبيا، وكنت آمل لو أني قرأتها في وقت مبكر، مثل كتاب فهمي جدعان: (أسس التقدم عند مفكري الإسلام)، وكتاب محمد جابر الأنصاري: (الفكر العربي وصراع الأضداد)، وكتاب علي النشار: (نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام)..إلخ الكتب التي تستعرض الفكر وأعلامه بأسلوب نقدي تحليلي وشامل في آن، لكنني للأسف، وبسبب غياب البيئة الثقافية الرشيدة المرشدة، قدّمت عليها كثيرا وكثيرا من الكتب التفصيلية والفرعية الهامشية، التي لا ترقى لتكون هوامش لها، فضلا عن أن تزاحمها في ميدان الاهتمام. أخيرا أقول: إن كان للرداءة عنوان في عالم الكتب، فلا شك أن ما كُتب فيما يُسمّى: (الأدب الإسلامي) هو عنوان الرداءة بامتياز. منهج الأدب الإسلامي الذي نشط (الإخوان المسلمون) لإنشائه ورعايته والتأليف فيه (حتى وإن ألّف فيه كثيرون من غيرهم فيما بعد)، هو الميدان الأكثر غُثائية. أذكر أنني وبحكم دراستي السنة المنهجية في إحدى جامعاتنا التقليدية، كنت مُضطرا لقراءة ما كتب في هذا الموضوع، كجزء من المقرر الإلزامي أو شبه الإلزامي. وقد هالني مستوى الرداءة في المنهج الدراسي المقرر، وثم تأكدت فجيعتي بعد قراءة ما ذكره أستاذ المادة من مراجع، وقلت في نفسي: لا يمكن أن يُقرّر منهج جامعي، وفي الدراسات العليا، ويكون بهذا المستوى من الإفلاس، لا بد أن يكون ثمة ما يبرر هذا الاهتمام المفتعل، ربما يكون (السر) موجودا في كتب أخرى. لهذا، نشطت للبحث عن كل ما كتب في هذا الموضوع، وجمعت أكثر من 35 كتابا لأشهر من كتب فيه، كنجيب الكيلاني، وسعد أبو الرضا، ومحمد بن سعد بن حسين، وأسامة يوسف شهاب، وأحمد بسام ساعي، وعبدالباسط بدر، ومحمد الحسناوي، ومحمد حسن بريغش..إلخ، وكانت النتيجة مفزعة، إذ لا شيء فيها يستحق الالتفات إليه، ورغم أنها ليست في مستوى واحد، إذ بعضها يبلغ قاع الرداءة، بل والإسفاف، إلا أنها - في العموم - كتب تستحق أن تدفن قبل أن تولد، كلها تتكلم في موضوع مفتعل أصلا، فضلا عن عجز القائمين بها أصالة عن الإتيان بشيء ذي بال في كل ما كتبوه، حتى خارج هذا الموضوع. [email protected]