بأي شكل من الأشكال، لا يمكن وضع قواعد مسبقة ومحددة لكيفية قراءة الكتب، ولكن لحسن الحظ، يمكن "نكز" القارىء المبتدىء، إلى أن الطريق لا يزال طويلاً لبلوغ ما يمكن تسميته ب (خبرة القراءة) وليس فن القراءة أو تلك التفاصيل التي أشار إليها البرتو مانغويل في كتابه المؤسس (تاريخ القراءة). إن القراءة، هي إحدى آليات الإدراك البشري، من خلال التعلم، إلا أن هذا التعلم المتعارف عليه مدرسياً، لا يكفي أبداً لانتشالِ قارىء هاوٍ من أمام سكة الكتب المزيفة والمزركشة الأغلفة، والتي تخفي وراء أقنعتها (الأغلفة) شخوصاً مزيفةً تستسهل التأليف وتدلس فعل الكتابة، بوعي أو دون وعي؛ تحت مسمى براق، هو (المؤلف). وهنا لا نعني التدليس بالمعنى الفكري أو الأيديولوجي، حيث نتفق مع طرح هذا الكتاب أو لا، وإنما نقصد تلك الكتب التي يجهل القارىء أنها تفتقد للجودة المهنية في فن حرفة الكتب، بسبب ماهية إنتاجها الفقيرة، مهنيا أو اعتماد كتابها على أسلوب التلفيق والتجميع المتبع في كثير من الكتب المحشوةُ بها المكتبة العربية؛ وهو الأمر الذي خلق وخلف بالضرورة قارئاً، لا يستطيع التمييز بين ما هو جيد أو ردىء. لقد قرأت ذات مرة تعليقاً في احد المواقع، يصف نصوص كاتب خواطر بليدة، بأنه كاتب معلمٌ وملهم؛ منذ ذلك الوقت بدأت أفكر في مسألة، خبرة القراءة، وكيفية جعل القارىء يميز بين الكتب الهامة والجديرة وبين تلك التي ينتجها "كتاب" قليلو الموهبة أو كتلك الكتب التي لا تكف دوما عن إعادة إنتاج المصادر الكبرى مع تقديم شروحات وزوائد قد تشبع رغبة هذا النوع من "المؤلفين"، في إطالة قائمة السيرة الذاتية من مؤلفاتهم المزعومة. إن خبرة القراءة، إجرائيا لا تختلف عن خبرة المتلقي في أي مجال من مجالات التلقي، فمشاهد الفيلم السينمائي المحترف، على سبيل المثال، قد يتطور ويمتلك خبرةً و(عيناً محللة وناقدة)، في التمييز بين ما يصلح (جماليا) للمشاهدة أو لا.. وهكذا في فعل القراءة، فإن ثمة شرطا زمنياً (وقتياً) وذهنياً ضروريا، لاستيعاب مسألة التفريق بين الكتب الجيدة والتالفة وفي القدرةِ على اختيار الكتب الجديدة والخلاقة، عبر اجتياز ما نسميه ب(دوائر القراءة الضرورية) والتي تبدأ بقراءة الكتب الأساسية الشهيرة، إن كان في مضمار العلوم أو الآداب الإنسانية والتي تؤسس في وعي القارىء الإدراك العام، لعالم القراءة والكتب، عبر بناء الذائقة الفنية والجمالية لغويا ومعرفيا، وثم بعد ذلك ننتقل إلى الدائرة الأصغر والأقرب وهي الكتب التي تضيف فكريا وجماليا وفنيا، إلى ما قُدم من تلك الكتب الكبرى والمؤسسة، وصولا إلى الدائرة الأدق، أي تلك الكتب التي تقدم طرحا جديداً وغير مسبوق من قبل في هذا الميدان أو ذاك. ولأن المسألة لا يمكن تحديدها بقواعد مهما بلغ الشرح والتوصيف، ما يعني أن (خبرة القراءة) هي مسألة فردية محضة، تعتمد على المخزون الذهني للمتلقي (القارىء) والذي يختلف بالضرورة من قارىء للآخر، وفق ما تؤكده نظرية الفروقات الفردية، بين الأشخاص. سعدي يوسف حسنا، ثمة إشارة عابرة ولكن غاية في الأهمية هي تلك التي مررها (مانغويل) عندما قال: إذا أراد القارىء أن يفهم النص ولو بصورة سطحية، يجب أن يكون لديه بعض الإلهام بنشأة النص، وبالخلفية التاريخية وباختيار الكلمات بصورة خاصة، لا بل وحتى بتلك الأمور المحيرة والتي وصفها توما الأكويني ب"نية الكاتب" (تاريخ القراءة، ص105). و"نية الكاتب" هذه، تحتاج لاستخلاصها، ليس فقط إلى القارىء الخبير وإنما اللبيب والذي يصل، مرحلة من الخبرة، يمكن أن يقرأ رؤوس الأقلام والأسطر الأولى من فقرات الصفحات، ويفهم، نية الكاتب، ويستخلص ما يريد دون أن يستغرق الوقت كله حتى في إتمام كامل الكتاب (رغم أهمية قراءة الكتاب كاملاً). وهنا أتذكر صيف 2005، عندما ذهبت لتغطية مهرجان جبلة الثقافي بسوريا، وكان ثمة معرض كتب مرافق للمهرجان السنوي (آنذاك)؛ وقتها زار الشاعر السوري أدونيس المعرض وبدأ بتصفح الكتب بتمرير رشيق لنظراته، بين الصفحات وهو يلتقط كتابا تلو الآخر، إلى أن تجمع لديه مجموعة عناوين، أعتقد أنه لو تفرغ لقراءتها جميعا، فلسوف يتوقف بلا شك عن أي التزام أو نشاط آخر، إلا أني عرفت منه خلال المهرجان، أنه: "يعرف جيداً ما يريد، من الكتب تلك". وهنا لا نقول أن على القارىء أن يقطع عمرا طويلاً، كأدونيس، حتى يصل إلى (خبرة القراءة) ويعرف جيداً ما يريد وإنما عليه أن يفرز مبكراً الكتب الجيدة من الرديئة، ويلتزم بتقاليد القراءة، العميقة التي لا تكترث لآليات التسويق الحديثة، حيث ليس بالضرورة أن يكون محتوى الكتاب جيدا أو جديداً وإنما فقط صورة الكاتب أو ما يخلق حوله من "هالة" وهمية، تدفع بكتبه إلى النشر والتوزيع، كما نرى في المكتبات العربية التي تعج بكتب لا تصلح إلا للكب (الرمي) كما وصفها لنا بسخرية ذات يوم، الشاعر العراقي سعدي يوسف. وأخيراً، يمكن الوثوق بأن مهمة القارىء ليس فقط في التزود الدائم بالمعرفة أو الارتواء بالمتعة واللذة الجمالية وإنما عليه أيضا أن يعثر، بالتوازي على تلك البوصلة التي تحدد الجادة الدقيقة لقراءاته، كي لا يجد نفسه وقد أضاع زمنا من عمره، بين أرف كتبٍ، قدرها النسيان. أدونيس