بين (ذي الرمة) و(ابن لعبون) أوجه شبه كثيرة غير التشابه في اسم (المحبوبة - مي) فهذا سبب وانٍ كخيط العنكبوت.. يجمع الشاعرين الكبيرين عدة جوامع فنية وظرفية منها: 1- أن كلاً منهما وقف على الأطلال طويلاً رغم أن الفارق ألف عام، وبكى واستبكى بحرارة وبشعور صادق صادر من القلب، وبشعر تسري فيه العاطفة سريان الكهرباء في الأسلاك، ويجري فيه الصدق جريان الماء في عروق الشجر.. 2- أن الشاعرين أخلصا في حب امرأة واحدة وقالا فيها أشعاراً لا تحصى (مي - ذو الرمة - ومي - ابن لعبون) وقد كانا صادقين في ذلك الحب البائس.. 3- يتصف الشاعران بدقة الوصف وجزالة الشعر والصدق في العاصفة والغزل.. 4- وكلاهما حُرم من محبوبته، فذو الرمة تغنّى بصاحبته طويلاً وبكى على أطلال منازلها كثيراً ولم ينل منها شيئاً، ومحمد بن لعبون مثله، قال العلامة أبوعبدالرحمن بن عقيل: (.. ظهر في عشقه الغزلي (أي ابن لعبون) أكثر من واحد ولكن عشقه كان مقصوراً على «مي» من أجل الحرمان لأنه لم يتح له مواصلتها). كتاب (ابن لعبون لابن عقيل) ص25.. وصدق الشيخ، فالحب رجل وامرأة وإعجاب وحرمان.. وذو الرمة عشق ميًّا فجأة، فقد ورد في (الأغاني) - ترجمة ذي الرمة) أنه رأى وهو في الصحراء فتاة رائعة الجمال تدخل بيت شَعَرَ فشغفته حباً حتى إنه لحق بها وقال وهو عند مدخل بيت الشّعر: اسقيني ماء يا فتاة! ولم يكن به ظمأ ولكنه أراد أن يراها مرة أخرى لأنها فتنته، فسمع الأم تقول للبنت: * أسق الرجل يا خرقاء..! (والخرقاء هي التي لا تحسن أي عمل (رفلاء) ومدللة) فجاءت له بماء ورأت حبلاً معلقاً على رقبته فقالت: * خذ ياذا الرِّمة!! أما هو فشخصت عيناه في محاسنها وجُنّ بحبها.. حتى إنه سمى (نفسه) ذا الرمة، ذلك اللقب الذي أطلقته عليه بسبب الحبل المرمي على عاتقه، والرمة اسم للحبل.. وظل ذو الرمة - كما ابن لعبون - يدور حول منازل (مي) ويراها بين الحين والحين وربما حادثها حتى سار شعره فيه فسرت وصارت تحادثه وتلاعبه دون أن ينال منها أي شيء، ثم رحل أهلها فجأة - كعادة الأعراب - فظل يبكي أطلال منازلها حتى مات، وكذلك (ابن لعبون). يا منازل (مي) في ذيك الحزوم قبلة الفيحا وشرق عن سنام وكلا الشاعرين مات في حدود الأربعين.. ذو الرمة ذهب في عمق الصحراء على ناقته (صيدح) فنفد الماء الذي معه وكان قد أبعد فحاول الرجوع لكنه هلك في الطريق في صحراء جرداء يا طالما وصفها بأبلغ الأوصاف فكافأته بالموت! أما شاعرنا الكبير محمد بن لعبون فقد كان والده مؤرخاً مشهوراً في زمانه، ويقول في كتابه عن ابنه: (.. ولد محمد في بلدة (ثادق) سنة 1205م، وحفظ القرآن، وتعلم الخط، وكان خطه فائقاً، وتكلم بالشعر في صغره، ومدح محمد بن سعود بن عبدالعزيز بقصائد كثيرة، ثم سافر قاصداً بلد الزبير وهو ابن سبع عشرة، وصار نابغة وقته في الشعر، وله أشعار مشهورة عند العامة، نرجو الله أن يسامحه، ولم يزل هناك إلى أن توفي في بلد (الكويت) سنة 1247ه بالطاعون العظيم الذي عمّ العراق والزبير والكويت فهلكت فيه حمايل وقبائل وخلت من أهلها منازل وبقي ناس في بيوتهم صرعى لم يدفنوا..) تاريخ ابن لعبون باختصار.. * والآن أقدم لك أخي القارئ ما تيسر من شعر ذي الرمة وابن لعبون الذين ولدتهما نجد وجمعت بينهما بعدة صفات في الحياة والممات.. قال ذو الرمة: أم دُمنة بين القلات وشارع تصابيت حتى ظلّت العينُ تدمع أجل.. عبرة إذا ما وزعتها بحلمي أبت منها عواصٍ تسرِّع عشيّة مالي حيلة غير أنني بلقط الحصى والخط في الترب مولع أخط وامحو الخط ثم أعيده بكفيَّ، والفربان في الدار وقع إنه منظر مفجع صوَّره العاشق ذو الرمة.. فمنازل (مي) التي كانت مسرح حبه، ومنى قلبه، تلك المنازل التي طالما ضحكت مرحاً مع مرح (مي) وابتسامها وصباها الطاهر.. وطالما فرحت مع خطوات (مي) حول بيت الشعر.. وبين العشب والزهر.. وذو الرمة يرمقها بوله عارم.. وهو غارق في عشقها.. مسرور بوجودها.. محبور بالمكان الذي تخطو فيه.. هذه المنازل هجرتها (مي) وأهلها.. وأصبحت موحشة.. مقفرة.. لا أنيس ولا حبيب.. ولكنه وقف فيها.. وأخذه الأسى والحزن.. وخنقته العبرات.. ثم صار (كالمسبوه) يلقط الحصى الذي مشت عليه (مي) ولعبت حوله وضحكت ومرحت.. لا وقت للمرح الآن.. فالعاشق الوحيد يلقط الحصى ويلقيه.. ويخط على التراب كلمات حب.. وكلمات أسى.. ثم يمحو الخط.. ثم يعيده.. وينظر حوله فلا يرى إلا الغربان تحوم حول المكان.. غراب البين! دار (ميّة) إذ (مي) تُساَعِفُنَا ولا يرى مثلها عُجم ولا عربُ ويقول وقد رأى الأثافي التي كانوا ينصبون قدورهم عليها قبل أن يرحلوا في عمق الصحراء.. حيث لا عنوان.. أما الهاتف أو الجوال فمن المستحيلات.. حتى الرسائل لا أمل فيها.. فالصحراء لا عنوان لها.. وأهل (مي) أخذوها إلى حيث لا يدري، يقول وقد وقف بمكان بيت الشعر الذي ضمها قديماً وعاشت فيه.. وحوله.. بكل جمالها وصباها وقد شعشع المكان نوراً بوجودها وجمالها.. أما الآن فلم يبق إلا الأحجار السود (الأثافي) التي لم تقدر الريح على إزاحتها بعد: أمنزلتي مي سلامُ عليكما هل الأزمن اللاتي مضين رواجع؟! يقول هذا وهو يعلم أنها لن ترجع.. لذلك يجيب نفسه: وهل يرجعُ التسليم أو يكشف العمى ثلاث الأثافي والرسوم البلاتع؟ الرسوم البالية لن تعيد من رحل! وقريب منه قول ابن لعبون: (يا منازل (مي) في ذيك الحزوم قبلة الفيحا وشرق عن سَنام «غرب البصرة وشرق جبل سنام.. إنها منازل يعرفها جيداً.. معرفة القلب قبل العين.. لأنها عاشت فيها الحبيبة». ولكن ما وضع تلك المنازل بعد أن رحلت عنها (مي) وما وصفها؟ في سراب عن جوانبها يحوم طافحات مثل خبز في يدام يستبين بها الخبير بها الرسوم دارسات كنهن دق الوشام «وابن لعبون أخبر الناس بها» ما بكت فيها من الفرقى، غيوم من نظير العين إلا من غرام من هموم في قلوب في جسوم في بيوت في ديار في عدام دار (مي) يوم (مي) لي تقوم قومة الماموم من خلف الامام كل عيش مثل عيشك ما يدوم يوم وصلك بالكرايم والكرام يوم (مي) تحسب الدنيا تدوم وأن عجّات الصبا دوم دوام في نعيم تحسبه لزماً لزوم مثل منزلنا على «ديم الخزام» يا سنين لي مضت مثل الحلوم كنهن في دار ابن عوّام عام»