تكشف لحظات الفراق وساعات الألم لفراق المكان والأحباب مدى تشبث الإنسان بتراب أرضه وما يحتويه هذا المكان من عناصر، وهذا تجانس طبيعي يتكيف معه الإنسان منذ نعومة أظفاره حتى إن بعض النواحي الفسيولوجية والسلوكية تتلاءم مع طبيعة هذا المكان، وهذا يؤكد أن هناك اقترانا شرطيا لعناصر المكان. فعندما يحل على المكان أو ذلك الجبل أو الوادي فإن تلك الصورة تسترجع معها أحداث المكان، سواء كانت سعيدة أم غير ذلك، ولقد بكى الشعراء منذ القدم على المكان وتمثل ذلك في البكاء على الاطلال بحيث أصبح ذلك من أساسيات القصيدة العربية من أيام الجاهلية. قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل فهذا البيت يحتوي على عدد من المواقع المكانية وهي الجبال من ذلك ذكر جبل الدخول وحومل وهذا الموقع به ذكريات للحبيب ويجسد الشاعر لبيد بن ربيعة صورة حية لتجربة المكان وتفاعله معه وكأن له مشاعر الإنسان الذي يفقد الأحباب ويبكي عليهم، يقول: بكتنا دارنا لما ارتحلنا فحيتنا سفيرة فالغيام والدار المقصود بها رنية حالياً أما سفيرة فهي جبل شاهق الارتفاع يقع في حرة سبيع والغيام قاع في الحرة من جعة اغريف تتجمع فيه مياه الأمطار لأشهر طويلة والأبيات والقصائد الجاهلية زاخرة بذكريات المكان، ولعل ذلك ساعد في توثيق مسميات الأماكن للباحثين والجغرافيين، ولكن الشعر الشعبي له طابع مميز في ذكريات المكان ووقعه وردود فعله عندما تقع العين عليه، يقول الأمير محمد بن أحمد السديري: ماشي بأطلال أجيال خلت دارسات موحشات خاويات أسأل الأطلال وين أهل البيان وين من سنوا طريق المكرمات وبلا شك فالإنسان مقترن بطبيعته وبيئته التي ترعرع فيها ونشأ، فلها حنين بعد الغياب عنها ولها ذكريات جميلة قد توقظ جروح أو لحظات سعادة، يقول محمد السديري: منازل كن الرياح عصفتها ما عاد يلقى عقب أهلها علامات كن السنين الموحشات سهجتها ولا عاد فيها للمقيمين لذات عيني بعد طول الفراق عرفتها وتذكرت وقت مضى فايت فات وإذا حدث هذا التشبع بعشق المكان فإن جميع مفرداته تنساق طبيعياً نحو هذا العشق الفطري، فالمكان به الماء العذب والهواء الصافي وكلها عناصر المكان ولها مذاق خاص. يقول أيضاً: أنا من نجد يكفيني هواها ويبري لوعتي شربي لماها وقد تتواصل سلسلة العشق في صور درامية البعض منها قديم يجدد جروح وذكريات الجديد وهذه الصورة الشعرية القادمة أشبه ما تكون بالبكاء على الأطلال، يقول الشاعر محمد السديري: هذي منازل من تمنيت قربه يا ما مشى فيها ويا ما سكنها دار خلت ما عاد يلقى الأثر به مادري محت والا هبوب دفنها والعطاء والتمني للمكان ليس بمستغرب على من يعشق عناصره، فالعاشق للمكان يتمناه جميلاً مخضراً تتعانق به الزهور وذلك بهدف اكتمال مسلسل دراما عشق المكان، يقول الشاعر غازي بن عون: كريم يا برقب على نجد شعال نوه عروض من أيمن الجدي لسهيل عساه لا منه على رغبتي مال دار لسرفات العشاير مداهيل من شرق يرسله من الريح مرسال يقهر سباق المزن ويلقح الحيل ويقول الشاعر عبدالله الدويش على نفس المنوال: لي صاحب ما قف طويقٍ مقره بين الخشوم النايفة والزباره ياالله عسى دهم السحايب تمره تنثر دقاق الماء على جال داره ويقول الشاعر ابن لعبون في وصل بديع احتوى جميع العناصر المكانية مع الاستمرارية على نفس الموال في محبة المكان: سقى غيث الحيا مزن تهامى على قبر بتلعات الحجازي يعط به البختري والخزامى وترتع فيه طفلات الجوازي وهناك أيضاً لغة خاصة بين عناصر المكان ومن يرتاده، أو بالأصح له عشق به وهذه اللغة تتضح من خلال سؤال المكان عن من كان يرتاده أو يستوطن به، يقول الشاعر ابن لعبون مخاطباً أحد العدود في صورة سؤال: يا عد يااللي قين البدو يردونه واليوم يا عد جالك صافي عافي يا عد وين الحبيب اللي يطرونه هذي مداهيلهم يلعب بها السافي ويقول أيضاً في حزوم مي: يا منازل مي في ذيك الحزوم قبله القيحا وشرق عن سنام ومن الأمكنة التي تعدد ذكرها أيضاً ومخاطبتها أعالي الهضاب والرجوم لأنها تطل على مساحة كبيرة من الأفق وبالتالي تعطي بعداً أوسع لمجريات عشق المكان، يقول جديع العنزي: عديت في أم عنيق فكة الريق هلت دموع العين من شي حداها وأنا أحسب أم عنيق فترج الضيق واثر الحظيظ اللي سلم ما رقاها ويقول أحد شعراء الأفلاج: الله اليوم لايسقيك يا ابرق نثيل ليت ربي عصمني ما اتغسل بماه وعندما يخلو المكان من أهله فإن له وحشة وجفوة قد تكون اقترانا داخليا، يقول سليمان بن حاذور: جيناك يا الطايف بني شوف الأحباب أحد صدر نجد وناسٍ بجده ننشد عن الغالي وناقف على الباب وش خانة الطايف إلى يبس ورده ويقول الأمير خالد السديري: راحوا عن الطايف وخلوه خاوي بدا لهم درب لغيره وعافوه راحوا بقلب اللي عليهم شفاوي يا ليتهم ما صيفوا به ولا جوه